السيدة زينب عليها السلام وتجليات الجمال الإلهي

مقالات

2020/09/21

title

السيدة زينب عليها السلام وتجليات الجمال الإلهي

أولاً: مقدمات:

  1. الجمال:

إن الجمال على اختلاف تعريفاته النظرية في فلسفة الجمال أو علم الجمال أو الفن، وعلى تنوّع صوره بين ظاهريّ وباطنيّ، شكليّ أو مضمونيّ، وعلى تباين الناس فيما يرونه جميلاً على المستوى التطبيقيّ الواقعيّ، حتى ليصحّ أن يُقال ما قالته ليلى الأخيلية: وقد سألها الحجّاج: ماذا رأى فيك توبة حتى قال فيك:

              ولـــــو أن ليلى الأخيلية سلّمت     علي ّودونـــــــــــي جندل وصفائح

لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا       إليها صدىً من جانب القبر صائح

فأجابته: لو أنك نظرت إليّ بالعين التي كان ينظر بها إليّ لقلت ما قال.

ولكنّ المتّفق عليه أن في الإنسان ميلاً إلى الجمال، جمال الطبيعة وجمال الإنسان وسواها من تجليات الجمال، هو ميل فطريّ في النفس الإنسانية، لولاه لما كان إبداع فنيّ ولا ذوق جماليّ ولا تحسين لقول ولا استحسان لفعل.

وهذا الميل واحد من الميول الفطرية السامية لدى الإنسان وهي:

  • الميل إلى الحقيقة: ولولاه ما كان علم ولا معرفة.
  • الميل إلى الخير: ولولاه ما كان أخلاق ولا قيم.
  • الميل إلى الكمال: ولولاه ما كان سمو ولا تكامل.
  • الميل إلى الجمال.

وبالإمكان تلخيص كل تلك الميول وسواها بالميل إلى الجمال، فلولا أن للحقيقة جمالاً لما مال الإنسان إليها ولولا أن للخير جمالاً لما مال الإنسان إليه ولولا أن للكمال جمالاً لما مال الإنسان إليه.

  1. الجمال الإلهي:

وهذه الميول الفطرية الإنسانية السامية إلى الحقيقة والخير والكمال والجمال لا حدّ لإشباعها إلا أن تنفتح على اللامحدود أي الحقيقة المطلقة والخير المطلق والكمال المطلق والجمال المطلق ألا وهو الله سبحانه وتعالى الذي لولاه ما كانت حقيقة ولا خير ولا كمال ولا جمال، فما من حقيقة إلا هي رشح من رشحاته، وما من خير إلا هو نفح من نفحاته، وما من كمال إلا هو عطاء من عطاءاته، وما من جمال إلا هو تجل من تجلياته.

ثانياً: السيدة زينب عليها السلام وتجليات الجمال الإلهي

المحور الأول: جمال المنزلة:

  • هذا الإنسان معجزة إلهية في عالم التكوين أسجد الله لها ملائكته أجمعين تكريماً، بعد أن سواه ونفخ فيه من روح أبدعها وأضافها إليه تشريفاً وتعظيماً ((إني خالق بشراً من طين، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) ولم يتمرد على ذلك الأمر الإلهي الربوبي إلا عدو الله والإنسان إبليس الرجيم اللعين ((فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين)).
  • ومن خصوصيات هذا الإنسان التي حيرت الملائكة وحفزتها إلى التساؤل والإشفاق من إفساد هذا المخلوق وسفكه للدماء ((أتجعل فيها من يفُسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك)) والتي طويت في قوله تعالى ((قال إني أعلم ما لا تعلمون)) وجاء الجواب التطبيقي لها في الآيات التالية ((وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)).
  • وما تلك الخصوصية إلا أن هذا المخلوق له بعدان: ملكوتي وملكي، روحي وطيني، وبقول بعض الأئمة المعصومين عليهم السلام (خلق الله الملك من عقل بلا شهوة وخلق الحيوان من شهوة بلا عقل وخلق الإنسان من عقل وشهوة فمن غلب عقله شهوته كان أعظم من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله كان أدنى من البهائم).
  • ومن ها هنا يمكن أن يُفهم من تلك المسميات المعروضة من بني الإنسان والتي أودع في آدم أبي البشر عليه السلام علم أسمائها من هم ذروة الكمال الإنساني ممن عصمهم الله بعصمته من المعصية والخطأ من الأنبياء والأولياء الذين يُصلحون ويصونون الدماء ويأخذون بيد المجتمع البشري كله بجهودهم وجهادهم إلى أرقى آفاقه وأسمى مراتبه.
  • وفي هذا الركب يجتمع خمسة لم يُتح مثلهم لأحد في وقت واحد في مكان واحد من حول زينب عليها السلام هم جدها خاتم النبيين سيد المرسلين أكمل خلق الله أجمعين، وأبوها أعظم الأئمة أخو الرسول سيد الوصيين، وأمها المرأة الفضلى سيدة نساء العالمين، وأخواها الإمامان قاما أم قعدا سيدا شباب أهل الجنة، وهؤلاء الخمسة هم أهل البيت أصحاب الكساء الذين قال عنهم ربهم سبحانه: ((إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)).
  • وعلى الرغم من أنّ زينب لم تكن من هؤلاء الخمسة فإنها كانت معهم وأقرب ما يكون إليهم رفعة وسموّاً بتفاعل تأثيرهم في وجودها وقابليتها الاستثنائية.
  • وفي هذه المنزلة التي أتيحت لهؤلاء الخمسة وللسيدة زينب عليها السلام تجلّ للجمال الإلهي يشغف الألباب.
  • ولكن عظمتها وعظمتهم لم تنبع من منزلتهم وموقعهم من سلّم الكمال الإنساني، ومن خصوصيتهم التي مُتعوا بها وجودياً من لدن الله عز وجل فحسب، بل هم لم يوهبوا أو يُوفقوا إلى تلك المنزلة لولا أنهم توءموا بين المنزلة والدور الذي نهضوا به وتحملوا مالا يُطيق تحمله سواهم من البشر.

المحور الثاني جمال الدور:

  • هذا الإنسان أعده الله لدور عظيم في هذا الكون هو ما عُبّر عنه في القرآن الكريم تارة بالأمانة ((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان)) وتارة بالخلافة ((إني جاعل في الأرض خليفة)) وفتح للخاصة منه أدواراً ومنها دور الشهادة ((فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً))
  • وهذه الأدوار لا تخص الذكر دون الأنثى فهي من نصيب النفس الإنسانية، والنفس هي جوهرة الإنسان وهويته وحقيقته وهي ليست مؤنثة ولا مذكرة ولا تتبع الجسم في تذكيره وتأنيثه بل هو تابع لها وآلة لتحقيق مطالبها ومركب تعرج عليه في عبادتها.
  • وفي القضايا الكبرى التي تتصل بحفظ الدين وصون القيم وإنقاذ الأمة ومستقبل البشرية لا غنى عن دور المرأة إلى جانب الرجل وهذا ما تحقق على أسمى ما يكون في دور السيدة زينب عليها السلام إلى جانب دور أخيها الحسين عليه السلام، فقد نذرت نفسها لثورته قبل بدئها وخلال سائر مراحلها وبعد استشهاده واستشهاد أصحابه الأبرار وأهل بيته الأخيار وكانت شريكة له ومكملة لمسيرته وحافظة لخلفه.

المحور الثالث جمال القول والفعل لدى السيدة زينب عليها السلام:

  • ثمة مفارقة بين حقيقة الإنسان وظاهر أمره غالباً، وقد تحتل هذه المفارقة مساحة قصيرة ومسافة محدودة بينهما، وقد يكون بينهما بُعد ما بين الأرض والسماء.
  • وهذه المفارقة تكون تارة لصالح حقيقته وتارة لغير صالحها أي تكون حيناً إيجابية وحيناً سلبية، وفي العظام والعظيمات والأفضلين والفضليات نموذج لهذه المفارقة في بونها الشاسع ولصالح حقيقتهم أي بالمعنى الإيجابي كما سلف، ومن ها هنا كانوا أسوة ومثلاً ورمزاً في قولهم وفعلهم اللذين هما صدى نفوس وصلت إلى أعلى عليين، ونهلت من معين حبّ ربّ العالمين.
  • هذا الجمال في الإنسان يبلغ عند المعصومين والمعصومات ومن يتاخم تلك المرتبة مستوى من الجمال في الفعل فضلاً عن الجمال في القول بحيث يعبّران عن جمال في النفس وأيّ جمال.
  • وحين نزفّ إلى رسول الله_ صلى الله عليه وآله وسلّم_ نرى مدى ما دلّه الناس وولّههم من جماله فحاروا في وصفه ولعلّهم أرادوا من مديح حسنه الظاهري الشكلي_ وهو كما قال: أملح من أخيه يوسف_ ما وراءه أيضاً من حسنه المعنوي الباطني المتألّق بشهادة القرآن الكريم ((قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)) وبقول الشاعر:

وأحسـن منك لم تر قط عيني               وأجمل منك لـــم تلد النساءُ

خُلقت مبرّأَ من كــــــــلّ عيب               كأنّك قــــد خُلقتَ كما تشاء

  • وإذا كان هذا الجمال النبوي قد أزهر في علي أخي الرسول وزهر في ابنته الزهراء وأورق في ريحانتيه وابنيه الحسنين عليهم الصلاة والسلام جميعاً فإنّ زينب العقيلة الهاشمية عليها السلام قد أخذت منه بنصيب وافر.
  • أجل لقد نهلت من معين حبّ الله عز وجل لأنها توهّجت بهذا الميل إلى الجميل المطلق إلى ربهّا سبحانه وتعالى بحيث لم تر في مصارع أخيها وأولادها وأهله وأصحابه_ بما هي قدر الله تعالى واصطفاؤهم من قِبله للشهادة دفاعاً عن الإسلام كلّه والمسلمين جميعاً في مواجهة الهجمة الجاهلية القبيحة قبح الشيطان وبتعبيرها الجميل: (ما رأيت إلا جميلاً).
  • إنه جمال الله تعالى اللامحدود يتجلّى فيها جمالاً تُضيء به نفسها، ويسبغ على كل قول تقوله جمالاً، وما أجمل ما قالت، ولكنه يُفيض على كل ما تفعله جمالاً، فما مصاديق جمال الفعل لدى هذه السيدة الجميلة الجليلة عليها السلام؟
  • إنّ جمال فعلها يتمثّل أول ما يتمثّل في جمال الموقف الذي اتّخذته بأن تخرج مع أخيها، وكانت شرطته على زوجها في عقد الزواج.
  • وهو يتجلّى ثانياً في جمال تمسّكها بهذا الموقف على الرغم من كل الصعاب والتحديات شريكة لا تزول ولا تحول وإن كان ظلم الأعداء ومكرهم لتزول منه الجبال.
  • ويتجلّى ثالثاً في جمال تحمّلها لما دار في ساحة كربلاء يوم عاشوراء، وإذا كان الحسين عليه السلام قد تحمّل ما لا يُطاق من رؤية سائر أهله وأصحابه وبعض أطفاله يُقتلون واحداً تلو الآخر، فإن زينب عليها السلام كان عليها أن تتحمّل ذلك كلّه وفوقه ما نزل بأخيها الحسين عليه السلام من قتل وتنكيل أفرغ فيه القوم كلّ قبح نفوسهم وقبح فعالهم وقبح أقوالهم يلخّص ذلك قول يزيدهم لابن زياده: إذا قتلت الحسين فاقطع رأسه وأوطئ الخيل صدره فإنه عاقّ ظالم مردداً قول الشاعر:

نفلّق هامــــــــاً من رجال أعزّة     علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

ويشفعه بشعر له يقول فيه:

ناح الغراب فقلتُ نح أو لا تنح      فلقد قضيت من النبيّ ديوني

ويثلثه مستشهداً بقول ابن الزبعرى يوم أحد:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا          جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهــــلوا فرحاً          ثــــــم قالوا يـــــا يزيدٌ لا تُشل

لعبت هاشم بالملك فــــلا         خبرٌ جاء ولا وحــــــــــــيٌ نزل

  • نعم كان عليها أن تتحمّل كل ذلك بصبر وصفه القرآن الكريم بالجميل ((فاصبر الصبر الجميل))
  • ويتجلّى رابعاً في جمال تضحيتها ذبّاً عن الإمام زين العابدين الذي صانه الله تعالى بالسقم عن أن تُستأصل باستئصاله الإمامة، فقد ألقت بنفسها فوقه تحول بين ابن زياد وبين قتله مما دفعه إلى القول: دعوه لها وللرحم.
  • ويتجلى خامساً فيما أضفته على الركب كله من جمال شموخها في سائر الطريق من كربلاء إلى الكوفة إلى دمشق إلى كربلاء.
  • هذا الجمال في فعل السيدة زينب عليها السلام لم يكن أقلّ شأناً من جمال قولها في خطبها التي صفعت بها وجوه الطواغيت في قصورهم وأهل الكوفة في تقصيرهم متوجاً بعبارتّها الخالدة في خطابها ليزيد: (فو الله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا).
  • ولكنّ هذا الجمال في القول وذاك الجمال في الفعل إنما يعبّران عن جمال في النفس الزينبية لم يزل يأخذ بألباب المحبين للجمال الجميل ويحفزهم إلى استقراء ملامحه متفاوتة فيه أساليبهم متعانقة فيه غاياتهم ليسوقهم إلى حبّ متيّم بجمال الله تعالى يتجلّى في جمال الإنسان حين تشعّ روحه ويتألّق وجوده بنور (ما رأيت إلا جميلاً)
  • إنه سرٌّ من أسرار زينب وأفق من آفاق زينب سلام الله عليها ما أحوجنا إليه في زمن الصراع بين قبح الاستكبار والصهيونية وأذنابهما في حقيقتهم وقولهم وفعلهم وبين جمال السائرين في خط النبوة وامتداده في الحسين وزينب في خط المقاومة الجميل الذي يستشرف بنا المستقبل الجميل الذي سيتلألأ بنور الجميل من آل محمد الذي سيملأ بعون ربه الجميل المطلق الأرض قسطاً وعدلاً وجمالاً كما ملئت ظلماً وجوراً وقبحاً والحمد لله رب العالمين.
  

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة