المقامات والشواهد الدينية ودورها في الحياة الإسلامية.

مقالات

2022/03/23

title

تضيء هذه المقابلة التي أجرتها الصحافية الإيطالية الآنسة تيريزا سلوا دوريتي مع الشيخ الدكتور نبيل الحلباوي إمام مقام السيدة رقية عليها السلام على جوانب متعددة من علاقة المؤمن مع الأئمة عليهم السلام والعبر التي من الممكن أن يستخلصها من سيرتهم العطرة، ويتطرق إلى المقامات والمشاهد الدينية المقدسة، فيتحدث عن أهميتها ويوضح دورها، كمراكز للإشعاع الحضاري والدعوة لله عزّ وجلّ، وفي خضم هذه المقاربة يتطرق إلى مقام السيدة رقية، ويتحدث عن سيدة المقام عليها السلام، ويوضح المعاني التي من الممكن أن نستخلصها من قصتها. ومجلة العتبة تنشر هذا اللقاء لأهميته، وللإضافات التي قدمها سماحة الشيخ على الموضوع.



لماذا يُعنى المسلمون عامةً والشيعة خاصةً ببناء مقامات لأهل البيت وأبنائهم؟ هل ذلك للتبرك بهم؟ أم لإحياء ذكراهم وتقديراً وتقديساً لهم؟أم ثمة أسباب أخرى أكثر أهمية؟
إنّ الفطرة الإنسانية تقدر كل من يقدم الخير للإنسان وتقدّسه وتعظّمه، ولذا عبد الإنسان الله تعالى - لأنّه الخير المطلق - منذ أن كان الإنسان وعلى مرّ الزمان، وحتى أوغست كونت الذي نادى بانتهاء عصر الدين وعصر الفلسفة وبدء عصر العلم، لم يستطع إنكار هذا الميل الفطري عند الإنسان إلى التقديس - والمسمى الشعور التعبدي - كما سنجد عند ماركس مولر، ولكنّه أي كونت دعا إلى عبادة الإنسان وهي في حقيقتها عبادة للشيطان، لأنّ الإنسان حين لا يعبد الرحمن الذي خلقه برحمته ويرعاه برحمته، إنّما يستجيب لعدوه اللدود الشيطان ويخضع له.
وعبادة الله الواحد الأحد وإجلآله وتعظيمه، تدفع الإنسان إلى تقديس كل من جاؤوا بأمر الله يدعوننا إلى الله ويدلوننا على طريق السعادة بحب الله في هذه الدنيا وما بعد الدنيا.
وهكذا وجدنا المسيحيين يحبّون الذين ضحوا لخدمة الإنسان حبيب الله وأسموهم القديسين، والمسلمون كذلك يحترمون الأنبياء جميعاً ويقدرونهم ويقدسونهم بلا استثناء، وكذلك الأولياء الذين يحفظون مسيرة الأنبياء، والشيعة وهم فيصلٌ أساس من المسلمين يحبون أهل البيت عليهم السلام لأنّ القرآن نادى بتطهيرهم من المعاصي كلّها، ولدورهم في خدمة الإسلام والمسلمين:(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب 33)، وقد دعا القرآن الكريم المسلمين جميعاً إلى مودة أهل البيت أي حبهم وتعظيمهم وتقديرهم بقوله تعالى:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى 23)، وتشييد مقامات أهل البيت عليهم السلام إذاً هو تعبير عن المودة التي أمرنا الله بها، وفيه تجسيد لألوان من هذه المودة، كالتعريف بهم وبدورهم في خدمة الإسلام والمسلمين، وتوفير فرص اللقاء بين عشاق الدين والقيم، وتقديم أجواء روحية ملائمة أي من خلال إطار جمالي فني مبدع.
وتحتضن هذه المقامات نشاطات عبادية كالصلوات اليومية، وصلاة الجمعة وخطبتها، وإحياء بعض الليالي بالذكر والدعاء وقراءة القرآن والصلوات المستحبة، ونشاطات ثقافية كالمحاضرات والندوات، ونشاطات تعليمية كمعهد السيدة رقية عليها السلام للعلوم الدينية والدورات المتنوعة.
وفي القرآن الكريم وصف الله تعالى نفسه بالقدوس:(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا آله إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) (الحشر 23)، وسُمّي ملك الوحي جبريل كما في سورة البقرة (7-8) بروح القدس ووُصِفَت أرض فلسطين بالأرض المقدسة كما في المائدة (21) ودُعي المؤمنون إلى الاقتداء بالملائكة التي تُقدِسُ الله تعالى:(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة 30).
ومن المتفق عليه إسلامياً ألا تقديس لمكان أو إنسان إلا لعلاقته بالله تعالى وبإذنه، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور 36-37). وأن كل مقدس سوى الله تعالى من الخلق هو عبد الله تعالى وصُنعه وآية من آياته.



ما الدور الفاعل لأهل البيت في حياة المسلمين المعاصرة؟ وهل يُختصر دورهم فيما سبق؟
الدين بعدٌ محوريٌ من أبعاد حياة الإنسان وشخصيته وثقافته، علماً بأنّ الأبعاد الثلاثة الكبرى على هذا الصعيد هي الدين والعلم والفن كما قال جورج سارتون في كتابه (تاريخ العلم) وهو، أي الدين، حاجة إنسانية أي مما تحتاجه نفس الإنسان. فهو أعظم من الماء وآلهواء والغذاء التي يحتاجها جسم الإنسان.
والدين طريق الإنسان وصراطه المستقيم إلى حياة سعيدة في الدنيا وسعيدة خالدة في الآخرة، فلا تتوقف حاجتنا إلى الدين ولا دوره في حياتنا أبداً. وهكذا فإن الأنبياء الذين حملوا إلينا الدين والشريعة، وقدموا أعظم النماذج الإنسانية الراقية للمتدينين بل لكلّ إنسان على مرّ التاريخ لا يختصون بالماضي، بل يمتد تأثيرهم إلى الحاضر والمستقبل، يستلهمهم كلّ سائر إلى الله تعالى.
وهذا الإسلام الذي هو آخر الشرائع الآلهية، هو الذي يؤمن بكلّ أنبياء الله وكتبه:(آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة 285). والذي هو الدين الذي يجمع الدين كله على أتمّ وأكمل ما أراده الله:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران 19) :(قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران 84).
هذا الإسلام يؤثر تأثيره، ويمارس دوره في حياة المسلمين ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم بطريقين:
من خلال مفاهيمه وهي مودعة في القرآن الكريم وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وارتباط المسلمين بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام من بعده ارتباط عاطفي روحي عقلي، فهم الأسوة والمثل في العقيدة والأخلاق والسلوك، وهم أحب الخلق إلى المسلمين لأنهم أحب الخلق إلى الله تعالى، وهذا الارتباط لا يتوقف ولا ينحصر في زمان دون زمان.



لماذا لا يوجد في الأديان غير الإسلام هذه الأهمية لأهل بيت نبي آخر سواء في حياة النبي أم بعد وفاته، في حين تُعطى كل هذه الأهمية لأهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام؟
ثمة أسر مقدسة في تاريخ الأنبياء كان الجد فيها نبياً والأب والحفيد وابن الحفيد (إبراهيم، إسحاق، يعقوب، يوسف) أو كان الأقارب فيها أنبياء ومقدسين (مريم، عيسى، وزوج خالته النبي زكريا، وابن خالته النبي يحيى). وهذه النبوة والقداسة لم تكن لهؤلاء لمجرد العلاقة النسبية أو السببية بينهم، بل لأنّهم أهل لذلك وجديرون ولائقون بحسب علم الله واصطفائه ورعايته لهم وحكمته العظيمة:(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام 124). وهكذا فإن أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم أسرة مقدسة بإرادة الله تعالى وعلمه وحكمته وعنايته فهم طاهرون من الذنوب والأخطاء:(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب 33).
وهم أحب الخلق إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا جاء بهم إلى المباهلة مع وفد نصارى نجران بأمر من الله تعالى:(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (آل عمران 61).
ذكر المفسرين جميعاً أنه لم يأت إلى المباهلة إلا بأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وهم الذين أُمر المؤمنون بمودتهم أي حبهم واتباعهم وتقديسهم:(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى 23)، وهم وسلالتهم الأئمة بعد رسول الله، وقد جاء مصطلح الأئمة في القرآن الكريم:(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء 73)، وجاء ذكر عددهم في حديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم(يكون عليكم بعد اثنا عشر) أي إثنا عشر إماماً والأئمة الإثنا عشر هم:
علي بن أبي طالب (أمير المؤمنين)
والحسن بن علي (المجتبى)
والحسين بن علي (الشهيد)
وعلي بن الحسين (زين العابدين)
ومحمد بن علي (الباقر)
وجعفر بن محمد (الصادق)
وموسى بن جعفر (الكاظم)
وعلي بن موسى (الرضا)
ومحمد بن علي (الجواد)
وعلي بن محمد (آلهادي)
والحسن بن علي (العسكري)
ومحمد بن الحسن (المهدي)، ولم تكن قداسة الأئمة عليهم السلام بسبب قرابتهم من رسول الله بل لأنهم برعاية الله وعلمه وحكمته يؤدّون بأدوارهم كما أراد الله سبحانه. وأما سر خصوصيتهم، أي لماذا تكون لهم هذه الأهمية في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، فهو أن الإسلام هو خاتم الشرائع، والنبي محمد هو خاتم الأنبياء فلا نبي بعده:(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب 40) ، وشاءت إرادة الله وحكمته أن يُحفظ الإسلام بعد النبي محمد من كل تحريف أو تزييف، فجعل أهل البيت والأئمة من نسلهم الطاهرين المطهرين كما مرّ في آية سابقة، حافظين لهذا الإسلام وهداةً إليه مهديين:(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس 35).
وفضلاً عن الآيات الكريمة فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو من دعا بأمر ربه إلى تعظيم أهل بيته وتكريمهم واتباعهم بعده في أحاديث كثيرة منها:(مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) و :(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً).



كيف يفهم الطفل المسلم حياة السيدة رقية بنت الحسين عليها السلام، وكيف يتفاعل مع قصتها؟ وهل توجد آثار عاطفية سلبية على الطفل الذي يطلع على قصة السيدة رقية التي ماتت طفلة بعد أن شهدت مقتل أبيها؟
يُربّى الطفل المسلم على تقديس الله وتعظيمه وحبه وعبادته، وعلى احترام القيم الاعتقادية والأخلاقية ويدرب على الأعمال الصالحة ويُنشّأ على حب أحباب الله والاقتداء بهم واتباع النبي وأهل بيته. وهو يفهم حياة السيدة رقية عليها السلام التي توفيت طفلة بعد فاجعة كربلاء في ظلال حبه لها ولأهل البيت عليهم السلام، وتقديره لدورهم في التضحية دفاعاً عن الدين والقيم، ورفضه لظلم الظالمين المنحرفين عن الإسلام، واقتناعه أن الدين والقيم حين يكونان عرضاً للتهديد والاستئصال، فلابد من مشاركة الجميع في الدفاع والتضحية رجالاً ونساءً وأطفالاً كما علّم الحسين عليه السلام في كربلاء.
وهو حين يأتي إلى مقامها هذا بشموخه وجمآله وجوه الروحي الاستثنائي يستحضر أنّ الله تعالى أراد لهذه الطفلة كلّ هذا التكريم والتعظيم والتقديس تكريماً للطفولة عموماً وبراءتها ونقائها، ولدور أيّ طفل أو طفلة في خدمة مبدأ عظيم وقيم عليا، وتذكيراً بأن الظالمين في الدّنيا لن يُشاد لهم أي مقام، على حين أن ضحاياهم من أصحاب الدين والقيم حتى الأطفال منهم ستشاد لهم المقامات ويُذكرون بكل تقدير واحترام (أين قبر يزيد؟ وأين قبر عبيد الله بن زياد؟). وكل هذا التكريم الذي شاءته حكمة الله تعالى وإرادته هو في الدنيا، فما ظننا بالتكريم في الآخرة؟ إنّ ذلك كلّه إنما يُغني كل طفل وطفلة بعاطفة إيجابية لا سلبية تُعدّه للتعامل بواقعية ومبدئية مع ما ينتظر من دور ومسؤولية، وليكون مع الدين والقيم في مواجهة أعداء الدين والقيم.



هل تتأثر المرأة المسلمة بقصة السيدة رقية أكثر من الرجل؟ وما الدروس التي تستفيدها المرأة من قصتها عليها السلام؟
إن المرأة المسلمة كالرجل المسلم لا فرق بينهما في تحمل المسؤولية قياماً بالواجب الدينيّ والخلقيّ والعباديّ والسلوكيّ، وبكلّ عمل صالح، وفي تلقي نتائج ذلك كله:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل 97).
وقد جاء الإمام الحسين عليه السلام بالنساء إلى ساحة كربلاء ليؤكد هذا المعنى في الدفاع عن الإسلام. وأدّت أخته زينب عليها السلام دوراً عظيماً في عاشوراء وبعد عاشوراء في مقابل الطواغيت في قصورهم، فقد ردت على شماتتهم وسخريتهم أعظم الردود، وبينت عظمة أهل البيت عليهم السلام، ودافعت عن قيم الإسلام والإنسانية:(فكد كيدك واسعى سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا). وكل ما سبق دروس يضاف إليها بخصوص السيدة رقية عليها السلام أن تربّي المرأة المسلمة أطفآلها ذكوراً وإناثاً على التمسك بقيم الإسلام وسلوكياته ورفض الظلم وعلى الاستعداد للتضحية تحت راية الحق والعدل.
نعم من الممكن والمتوقع أن تتأثر المرأة أكثر من الرجل بقصة السيدة رقية عليها السلام، لما تمتلك من غنى عاطفي ولأنّ المقام مقام طفلة بريئة، لكنّها أي المرأة ستزداد تصميماً على ممارسة دورها في حماية الطفولة عموماً من كلّ الظالمين ولا سيما المستكبرين والمحتلين، وفي كل أرض ولا سيما فلسطين.



هل تُختصر آثار قصة السيدة رقية عليها السلام في البعد العاطفي؟ وهل لها أبعاد أخرى ولا سيما بالنسبة للإنسان غير المسلم؟
لقصة السيدة رقية عليها السلام فضلاً عن بعدها العاطفي في وجدان الإنسان كل إنسان ولو كان غير مسلم أبعاد أخرى:
نعم هناك أبعاد متعددة لقصة السيدة رقية عليها السلام، يمكن أن نوزعها على الشكل التالي:
البعد الاعتقادي: لابد للإنسان من رؤية وفهم للوجود يتعدى الفهم المادي، فلا شيء يفسر مادياً هذه القصة لفتاة بريئة مظلومة، وما نتج عنها من كل هذا الجمال الذي يجتذب العقول والقلوب وهذا الفن الآسر وهذا المقام الشامخ، ولا شك إذاً أن إرادة غير مادية نافذة في هذا الكون هي التي شاءت ذلك كله.
البعد القيمي: ولا يُفسَّر كل ما نتج عن هذه القصة في ضوء النفعية (الفلسفة البراغماتية) بل يتأكّد أن للقيم كالحرية والعدالة والحق دورها وإشعاعها وتأثيرها على الناس.
البعد العملي: ولا يمكن حصر البعد العملي للإنسان في التعامل الاقتصادي بل لابد من إشباع حاجته الروحية، وهذا لا يكون إلا بالتماس الطمأنينة والسكينة والبعد عن القلق وعن دوامة الحياة الصاخبة وآليتها الرتيبة في مثل هذا المقام بوجهه المعنوي المتميز.



هل يُعنى المسلمون بالمرأة في حياتها كما يقدسون مثل هذه الطفلة بعد مماتها؟
لا يوجد ثقافة تقدّر المرأة وتعظّمها كالثقافة الإسلامية الأصيلة في منابعها ومصادرها، فالقرآن الكريم يكاد لا يذكر قصة نبي عظيم إلا أشاد بدور المرأة في حياته ودعم رسالته ومثال ذلك النبي موسى عليه السلام وما لأمه ولأخته وزوجته ابنة النبي شعيب من شأن في حياته ومثال ذلك أيضاً السيد المسيح عليه السلام وما لأمه السيدة مريم المقدسة عليها السلام من دور عظيم في حياته فضلاً عن جدته امرأة عمران، ويثني القرآن أعظم الثناء على امرأة فرعون المتجبر المتربب لأنها كانت امرأة صالحة مؤمنة ويعتبرها مثالاً أعلى للرجال والنساء:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (التحريم 11).
وما أروع ثناء القرآن على السيدة مريم عليها السلام:(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران 42).
ينوّه القرآن الكريم بالذكر والأنثى وأنهما سواء في الجوهر الإنساني والاستعدادات الروحية والقدرة على التكامل المعنوي، ويدعو إلى احترام المرأة وتكريمها واستقلآلها المالي عن زوجها:(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء 32)، ويعظم دور الأم ويدعوا إلى الخضوع لها وإلى الأب:(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (الإسراء 23).
وها هو ذا الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أسوة للمسلمين في كلّ أمر ولا سيما في التعامل مع المرأة وهو القائل:(ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم) و:(خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي). وكلّ مسلم لا يعمل بهذه التعاليم تكريماً واحتراماً للمرأة في حياتها - وليس بعد وفاتها فقط – ليس من الإسلام في شيء.



كيف تقنع فتاةً إيطالية (غير مسلمة) بأهمية أهل البيت وبضرورة بناء مقامات لهم وخاصةً لطفلة من بنات الإمام الحسين وكيف تشرح ذلك لغير المسلم عموماً وأخيراً للمسلم والشيعي خصوصاً؟
ليس تشييد المقامات لأهل البيت عليهم السلام من الواجبات الدينية، وليس مما فرضه الإسلام ومدرسة أتباع أهل البيت عليهم السلام على الناس فرضاً، وإنما هو أمر شاءته حكمة الله تعالى وإرادته فسخّرت له بعض المؤمنين العاشقين لله ولأحباب الله، فاندفعوا إلى ذلك من تلقاء أنفسهم. وقد يطلب إليهم علماء الإسلام أن يصرفوا تلك الأموال في مشروعات أخرى اجتماعية واقتصادية لمصلحة المسلمين، ولكنهم يصرون على ذلك ويدفعون من أجله بسخاء وإقبال وإلحاح. وهكذا وجدنا أن المقامات لا تبنى بأموال دولة ما أو جهة رسمية وإنما بتبرعات من الناس. ووجدنا توسعاً في بناء هذه المقامات يشمل أهل البيت عليهم السلام رجآلهم ونساءهم وأطفآلهم. وكذلك شاءت إرادة الله تعالى وحكمته ألا تكون هذه المقامات مجرد أماكن لتعظيم هؤلاء المضحين في سبيل الله من أحباب الله المقدسين، وإنما أن تكون مراكز تتحقق فيها أهداف مهمة منها: أنها أماكن للعبادة والسكينة الروحية والطمأنينة النفسية والتخلص من الاضطراب والقلق، وما أحوج الإنسان إلى ذلك كله. أنها ملتقيات للزوار المؤمنين المحبين المتأثرين بما يمثله صاحب المقام أو صاحبته من نقاء وجمال معنوي. أنها بما فيها من فنون من الرسم والنقش والتزيين تجليات للإبداع الفني بأيدي عشاق لله وعشاق لأحباب الله. ما يقوم على جوانبها من مؤسسات تعليمية وثقافية واجتماعية وصحية لخدمة الناس جميعاً، وما يُمارس فيها من نشاطات فكرية وروحية. وأما هذه الطفلة رقية عليها السلام فهي رمز للطفولة البريئة المظلومة في كل مكان وفي كل زمان، وقد كرّمها الله تعالى بأن جعل القلوب تهفو إليها والناس يحتشدون لزيارتها، وفي ذلك نداء لنا - معشر الناس جميعاً - لنحمي الطفولة وندافع عنها في مواجهة الاحتلال والاستغلال والعنف والإرهاب والفقر والجوع والبرد وألوان الظلم كلّها.

 

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة