رسالة حب وولاء إلى ابنة سيد الشهداء

مقالات

2022/03/22

title

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ*) (النور 36-37-38).
حين تجتاز باب الفراديس في محلة العمارة القديمة من دمشق أعرق مدن التاريخ؛ يصافح بصرك صرح يتألّق فيما حوله بقبابه ومئذنته وسوره، ويُضفي على المكان أريجاً لا يفتُر يعطّر قلبك، وتسأل نفسك: هل انتقل الربيع من الزمان إلى المكان؟ ويدنو بك الفضول - ولا غرو - ففيك أيها الإنسان انشداد إلى الجمال، وتعبُر بوابة حديديّة لتجدك أمام عبارة نُقشت - فوق الباب الخشبي المهيب - على الحجر يخفق لها قلب الحجر:(هذا مقام السيدة رقية بنت الإمام الحسين الشهيد بكربلاء).
وتخلع نعلي المادة لتقف على أعتاب الروح، وتستشرف من الباب المفتوح رحابة المكان يعانقها امتداد الزمان، ويشدّك الصحن الواسع المنفتح على السماء - وإن غُطّي بسقف متحرّك من الحديد والزجاج ليقي مواكب المحبين قيظ الصيف ومطر الشتاء - وتقابلك بعض أبواب الضريح يتوسطها باب ذهبي يبوح بأنّ الحديد والزجاج والخشب وحتى الذهب يُحبّ، وأنها جميعاً آيات وتجلّيات لمراتب من الحبّ للجميل المطلق ومن أحبّوه وأحبّهم، وما دمت قد خلعت نعليك فلتلج إلى عالم من الحب في هذا الحرم المقّدس.
وتجد عن يمينك مسجداً لأصحاب اليمين صغيراً في حجمه كبيراً في معناه يحتضن بشغف ركب المُخفّين المسارعين إلى الصلاة.
وتنتقل من فِناء إلى فِناء إلى متوضّأ يجدّد الإنسان فيه طهارة البدن سعياً إلى طهارة ما وراء البدن، ليتّخذ من الطهارة مرقاة إلى صلاة وقراءة قرآن وزيارة ومناجاة ودعاء.
وبجانب الباب الذهبي إلى الضريح تصافح بصرك قبل الدخول لوحة النسب الشريف، يتلألأ فيها اسم جدّ كريم هو عبد المطّلب ينبثق منه ولدان شقيقان هما عبد الله وأبو طالب؛ يلد الأول من زوجه آمنة للكون أكمل الخلق أجمعين وخاتم النبيين ورسول الرحمة إلى العالمين محمداً صلّى الله عليه و آله الطيبين الطاهرين وصحبه الغرّ الميامين وسلّم وبارك وترحّم، ويلد الثاني - كافل رسول وحاميه - من فاطمة – أم الرسول تربية ورعاية - أخاً للنبيّ وربيباً ووصياً وحبيباً علياً أمير المؤمنين وإمام المتقين عليه السلام، ليُزفّ إليها وتُزفّ إليه بأمر من الله تعالى ابنة النبيّ سيّدة نساء العالمين الزهراء عليها السلام، ويبزغ من هذا الزواج كواكب كالإمامين الحسن والحسين وعقيلة بني هاشم زينب عليها السلام، وما رقية عليها السلام صاحبة هذا الصرح ولؤلؤته إلا ابنة الإمام الحسين سيد الشهداء وبطل كربلاء.
فما قصتها؟ ومتى جاءت إلى هذه البقعة؟ وأودعت فيها لتشرق أنوارها وتتفتّق أسرارها؟
لقد كانت في ركب أبيها ومع عمتها عليها السلام ومع الثلّة من أهله الأبرار وصحبه الأوفياء، وإضمامة ممن يلوذ بهم جميعاً ويأبى فراقهم من الأطفال والنساء، خرج بهم من المدينة المنورة إلى مكة المقدسة إلى كربلاء الشهادة؛ ليسطر بالدم وبالكلمة أروع ملحمة في الدفاع عن دين الله حرصاً عليه وضنّاً أن تعبث به الأهواء، وليحفظه للمسلمين وللعالمين كما أراده الله نقياً كماء السماء يُروي الظماء بعد الظماء.
وحين انجلت المعركة عن ارتقاء رجال الركب معارج الشهداء احتُزّت رؤوسهم وحُملت على الرماح وسيق الركب بأطفاله ونسائه من كربلاء إلى الكوفة إلى دمشق.
وفي خربة من دمشق - غير بعيد من قصر يزيد - أنزل هؤلاء وفيهم رقيّة الصبيّة التي لم تجاوز أربع سنوات من نداوة عودها وغضاضة سنها؛ فأخذها توق وألح عليها شوق إلى أبيها وهي لا تدري ما فعل القوم به، فصاحت وشقّ صوتها عتمة الصمت وسكون الموت، وجيء لها بعد تأبّ وامتناع، بأبيها رأساً بلا جسد، وأكبّت على الرأس الحبيب تعانقه وتقبّله وتناغيه وتذرف عليه دموع القلب إلى أن فاضت نفسها حزناً ووجداً وتفجعاً، ودُفنت حيث تًوفّيت، لينهض من حول مرقدها بعد قرون بنيان يسير تحتضنه دمشق حباً ووفاء، وتشاء حكمة الله وإرادته الغالبة أن يتنافس ويتعاضد محبون أوفياء في تشييده صرحاً وتجديده.
ونعود إليك وقد استأذنت للدخول إلى حرم المرقد بدعاء لطيف يرفّ فيه الروح وتحليقاً مع الملائكة الحافين به، وما إن تدخل حتى يدهشك ويخلبك جمال أخّاذ، تعانقت فيه أيد وقلوب سكبت عشقها لله تعالى وأحبابه فناً يتحاور فيه الذهب والزجاج والكاشي وضروب من الفنون والألوان والخطوط فوق ضريح هو آية من آيات الجمال، وتتدلى من علٍ ثريات هي عناقيد من الضوء تبتهل إلى رب النور.
ويزدحم المكان من حولك أسراباً من أجساد تروّحت أو أرواح تجسّدت، تزفّ إلى موئل للرجال وموئل للنساء، حتى إذا وصل بها الوصل إلى جنبات الضريح أنشأت العيون والأيدي والقلوب قبل الشفاه تقبّله وتتمتم وتنادي (يا حبيبة رسول الله).
وإذا ما دعوت وزرت فانعطف يمنة؛ لينفسح أمامك مصلّى يُظلّك بمنظومات من جمالات وإبداعات تقول مع الزائرين بصوت واحد (نحن عشاق الله وأنّى لنا بعد ألا نعشق حبيب الله وذرية حبيب الله؟! وقد دعانا إلى مودتهم وجعلها أجر الرسالة والسبيل إلى رضاه:(ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (الشورى 23)، (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) (الفرقان 57).
وصلّ شكراً لله أن أتيح لك مكان في ركب عشاق الجمال وأن تتلقن دروس أساتذة الحب حيث تتعانق الأنوار وتتولّد الأسرار.
وتذكّر وأنت على ضفاف مكتبة غنيّة وصالة للمحاضرات وجامعة للعلوم الإسلامية أنك بإزاء منهل عذب وبرامج لمواسم مخصبات وليالٍ مباركات وندوات ولقاءات؛ بحيث يحلّق الروح ويتدفّق الفكر وتنمو النفس ويتفتّح القلب.
وأنك ترى وتدرك وتتذوق معنى تحقق وعد الله:(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد 17).
صدق الله العلي العظيم والعاقبة للمتقين والحمد لله ربّ العالمين.

 

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة