أسس الانفتاح الفكري

مقالات

2021/02/15

title

أسس الانفتاح الفكري

الموضوع تأسيسي إذ الانفتاح الفكري -كما سيظهر من آثاره- منطلق كل انفتاح ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي وحضاري، وهو من ألوان الانفتاح هذه أشبه بما قاله الملا صدرا عن الحركة الجوهرية من أنها أصل كل حركة في الأعراض من الكم والأين والمتى.

لذا كان من الأهمية بمكان أن تقرأ أسسه ليشاد بناؤه على أرضية صلبة في حياتنا ووجداننا ونجعل منه الجامع المشترك بين البشر تحقيقاً لقيمة دعا إليها الإسلام ويتبناها العقل وتكبرها الإنسانية ألا وهي التعارف {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}[الحجرات:13]

على أن قيمة التعارف هذه بحاجة إلى بحث آخر، ويكتفى هاهنا بالإشارة إليها في الكلام.

أجل إن تسمية الموضوع بأسس الانفتاح الفكري على الرغم من تعرضه للانفتاح الفكري مفهوماً وأهمية وأسساً ووسائل وآثاراً واتجاهات وضوابط إنما هو من قبيل المجاز المرسل وهو في فنون البلاغة تسمية الكل بأبرز أجزائه كما في قولهم (تحرير رقبة) والمقصود تحرير إنسان بكامله من العبودية المقيتة لأن رقبته كانت تثقل بالأغلال وتنوء بها الأثقال.

أولاً: مفهوم الانفتاح الفكري:

يتكون المفهوم على أسلوب التركيب الوصفي من كلمتين: الانفتاح والفكر.

أما الانفتاح لغة فهو من الفتح ويقابله الغلق مصدراً واسم الآلة منه مفتاح ومغلاق على وزن مِفعال ويكون مفهوم مصدر الانفعال لكليهما الانفتاح في مقابل الانغلاق، وشتان بين أبواب انفتحت وأبواب انغلقت بل بين آفاق انفتحت وآفاق انغلقت.

وأما الفكر فهو من الكشف مقابل الكفر وهو الستر وأما مفهومه فهو حركة الذهن من المعلومات إلى المجهولات وهي -كما قيل في المنطق- مؤلفة من حركات خمس تختصر في الحدس بثلاث.

ويتضح مما سبق أن هذا التركيب الوصفي (الانفتاح الفكري) إنما يعني في مفهومه استعداد الإنسان لتفهم أفكار الآخرين وتقبّل الصالح منها. والنقاش الإيجابي حولها.

ولعل هذا الانفتاح الفكري أن يكون ذريعة إلى الحكمة التي ندب الإنسان إلى اعتناقها من أي مصدر جاءت باعتبارها خيراً كثيراً {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة:269]

بل جعل فنّ اقتطافها من الأفواه قولاً والعقول فكراً والثقافات منهجاً من وظائف الأنبياء في تعليم البشر وتزكيتهم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين}[الجمعة:2]

ثانياً: أهمية الانفتاح الفكري:

وهذه الأهمية تتوزع على جبهتين أو جهتين:

فهي تعني من جهة الخروج من كل ألوان الانغلاق وأدوائه من:

- التقوقع عل الذات: وهو لا يجعل من المتقوقع لؤلؤة في المحارة بل يفقده كل آماله في اللؤلؤية، ويقضي عليه بأن يتعفّن إذ يحرمه أن يجدّد هواؤه ويُنقِّي ماؤه.

- والتعصّب: وهو أصل المصائب في تاريخ الخلق؛ فإبليس كان يحسب كلام الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة إمام المتعصبين وقد تعصّب لعنصره إذ قال حسداً لآدم واستكباراً على السجود له بأمر الله {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} واستحق بتعصبه أن يُخرج من الجنة {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِين}[الأعراف:18]

والعصبية كما يفهم من الحديث الشريف لسيد الخلق محمد (صلى الله عليه وآله سلم) ليست في أن يرى الإنسان خيار قومه خياراً، ولكن أن يرى شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين.

ولذا نبّه الرسول الأكرم ونوّه محذراً (ليس منا من دعا إلى عصبيته) ومن المؤسف أن العصبية القبلية -التي أراد الإسلام استئصالها من النفوس ليحل محلها التعصب لمكارم الأخلاق وهي قاسم مشترك بين الناس- عادت لتمزق الأمة طرائق قدداً.

ومن ها هنا كان من معاني الانفتاح في المنفتح البراءة من التعصب بكل أشكاله من تعصب لجنس على جنس كالمتعصب للذكر على الأنثى والعكس، وتعصب للون كالتعصب للأبيض على الأسود والعكس، وتعصب للقومية كالتعصب للعربي على الأعجمي والعكس، وتعصب للشرعة كالتعصب للمسلم على المسيحي والعكس وتعصب للمذهب كالتعصب للشيعي على السني والعكس.

- والصراع غير المبرر: ذلك أن الصراع هو استثناء وضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، والأصل أن يتحاور الخصمان بالفكر ثم باللسان ولا يلجأ إلى الصراع المسلح إلا حيث لا مندوحة ولا فرصة للتفاهم والتوافق.

ومن خصائص المنفتح الخروج من غريزة الاعتداء وليس ثم إلا رد الاعتداء وبمثله ما أمكن

(ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ[البقرة:194]

(ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [البقرة:190]

وهي تعني من جهة أخرى هاهنا الدخول في :

1- التعارف: وقلنا إن هذه القيمة جامعة للبشر بموجب الأصل الواحد الذي صدروا عنه وهي تشمل مجتمعاتهم التي أقاموها ابتداء من الأسرة البشرية الأولى من آدم وحواء على تنوعها شعوباً وقبائل:

(ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ)[الحجرات:13]

وهكذا يكون أكرم الناس عند الله وأعلاهم منزلة من يتقي الله في الأصل الواحد والأسرة الأساس وفي توظيف التنوع الاجتماعي لمزيد من التعارف أي أن يعرف كل الآخر، ولا معرفة ولا تعارف ما لم تقوما على انفتاح.

2- التعايش: ومن التعارف ينطلق الناس إلى مستوى أعلى، هو أن يعيشوا جنباً إلى جنب في أمان واطمئنان، وبعد عن النزاع والصراع وبذا يضمن بعضهم لبعض عيشاً أفضل وأمثل.

3- التفاهم: ويرتقي التعايش ليكون لقاء على فهم مشترك لأمور كثيرة، ويسهم في تقريب الهوة وتجسير المسافة وجمع الشمل ولمّ الشعث.

4- التعاون: ويسمو التفاهم من إطاره النظري ليتجلى تطبيقاً عملياً بفنون من التعاون المثمر:

(ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ)  [المائدة:2]

5- التناغم: ومن التعاون تنبثق معارج التناغم بين البشر فإذا هم على ما يكون لكل نغمة من خصوصيته تتناسق نغماتهم وتتوافق لتؤلف سينفونية إنسانية تزخر بحقائق العلم ورقائق الفن وسوامق الدين.

ثالثاً: للانفتاح الفكري أسس يقوم عليها هي بمثابة الجذور من الشجرة والدعائم من البناء، وحيث لا تتحقق فلا انفتاح بل فقدان لأرضيته ومنبثقه، ولا يعني ها هنا الادّعاء، فالمدّعون كثير والحقيقة شمس ساطعة تذيب كل جليد الادعاء والمدعين.

وأسس الانفتاح الفكري فئات:

 

 

فمنها أسس عقلية:

1- إذ العقل أولاً منطلق الانفتاح الفكري فحين يقصى العقل تحضر الغرائز، ولا انفتاح حين تهيمن وتتحكم وتملي على الإنسان الخضوع لغضبه وشهوته.

وثمة جهل يقابل العقل لا العلم وهو أخطر وأعظم فتكاً، ومنه سميت الجاهلية جاهلية وقد أملت قديماً على كل قبيلة ألا ترى في القبيلة الأخرى إلا خصماً تتنازع وإياه على الماء والكلأ وتثور بينهما الحرب الضروس لأدنى سبب وأوهى ذريعة، وحسبك داحس والغبراء وهي حرب امتدت أربعين سنة بادعاء أن حصان قبيلة سبق حصان قبيلة أخرى بحيلة.

2- ومن خلال العقل تناقش القضايا النظرية فلا يزال يعود بها إلى قضايا نظرية أخرى هي قيد النقاش إلى أن تؤول إلى قضايا بدهية فيخضع العقل لها دون نقاش.

3- ولا يعوّل في حوار العقل للعقل إلا على الدليل (نحن أبناء الدليل  حيثما مال نميل) ، وأمتن الأدلة هو الاستدلال البرهاني (ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ)  [البقرة:111]

4- وحيث يحضر العقل فلا يجزئ الظن "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً"، ولا اتّباع عند العقل إلا لليقين، ولا معنى بعد ذلك للجحود والإنكار إلا بنتيجة العلو والإستكبار (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ)  [النمل:14]

وقد يسمى الدليل العقلي البرهاني اليقيني بالفلسفي، لأن الفلسفة بحث عقلي حر لا يعوّل فيه على مبتنيات سابقة، لا يهدف إلى إثبات أمر أو نقضه، وكل مطلوبه هو الحقيقة.

ولكن هذا البحث لا يخلو لدى الإنسان من مظنة الخطأ، فلا معنى لتقديس جميع النتائج الفلسفية، وآية ذلك أن الفلاسفة انتهوا إلى نتائج يباين بعضها بعضاً ومذاهب ومشارب وتيارات واتجاهات يناقض بعضها بعضاً.

نعم القواعد العقلية لا تقبل التخصيص فإذا انتهى العقل إلى أن (النقيضين لا يجتمعان) فليس يصحّ أن تكون كلتا الفكرتين المتناقضتين صحيحة في أي مورد البتة.

ومما سبق يتضح أن العقل يصح أن يُحتكم إليه ابتداء فيما هو في نطاق ما يحيط به وما له سبيل إليه وما لا يعارض أسسه وبدهياته وبرهانه ويقينه.

وما دام هذا الاحتكام من جهة، وعدم تقديس كل نتيجة توصل إليها فلاسفة مختلفون على مدى العصور من جهة أخرى مورد توافق، فلن ينغلق أحد في مقابل احد وستنفتح أبواب وأبواب لنقاش حر ينبثق منه نور الحقيقة ويكون ثمّ الاتفاق، وسيعذر بعض الناس بعضاً فيما اختلفوا فيه فلا يكون ثم نزاع ولا شقاق.

 

- ومنها أسس دينية:

1- فالدين وإن كان من الله واحداً، بمعنى أن الله لا يقدم للناس نصوصاً متباينة متناقضة فيما يتعلق بحقائق الكون لأنها من فيضه وهو الحقيقة المطلقة، ولكن الشرائع إنما ترعى ألواناً من التدرج وضروباً من التنوع لتحقيق مصلحة فيما أمر به ونبذ مفسدة فيما نهي عنه، لتتكامل الصورة التشريعية الإلهية من لدن الله بما يرسم منهجاً لصوغ الفرد وتواؤم المجتمع.

2- ولكن الدين -بما هو تجربة بشرية لكل متدين حتى في أتباع الشريعة الواحدة- هو شيء آخر، فقد تنتمي بعض التجارب إلى الدين الإلهي وقد تكون اجتهاداً بشرياً قابلاً للصواب والخطأ.

3- فإذا أحكم التفريق بين الأمرين السابقين: الدين من عند الله وكما قدّمه الأنبياء المعصومون، والدين كما فهمه وطبقه بعض المتدينين، فستكون مساحة الانفتاح الفكري أوسع وسينادى بالمشتركات، ويدعم ذلك أن الأصل الإنساني بحسب الدين يعيد البشر جميعاً إلى أسرة واحدة (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)  [النساء:1]

الناس من جهة التمثال أكفاء                            أبوهم آدم والأم حواء

4- وثمة أسس كبرى مشتركة بين الشرائع أو قل هي أسس الدين المشترك، ألا وهي التوحيد فالله واحد لا شريك له وهو الخالق والرب، والنبوة اصطفاء إلهي لمبعوث رباني يوحى إليه وليس أنه بالدين من تلقاء نفسه نبوغاً وعبقرية وأخلاقاً، وهو محفوف بالعصمة فلا يعصي ولا يخطئ في التبليغ على الأقل، وهو مؤيد بالمعجزة لتصدّق دعواه، والمعاد رجوع إلى الله يبدأ بالموت لكل حي وينتهي بالحساب فالثواب أو العقاب كفاء ما قدمه الإنسان ولن يجزى إنسان إلا عمله (ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ[النجم:41]، والمعاد مقتضى قدرة الله وحكمته وعدله.

5- وحين يدعو الدعاة إلى دين الله أو ما يفهمون من الدين فعليهم أن يتذكروا أن الله قال لنبيه :

(ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ)  [الغاشية:22]

(ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ)  [النحل:125]

فلننهل من معين الآيات القرآنية وهي تؤيد الأسس العقلية.

قال تعالى: (ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ[الحجرات:13]

فهذه الآية تنوّه وتنبّه إلى قيمة التعارف وما أعظمها من قيمة وما أدلّها على الانفتاح الفكري.

وقال تعالى: (ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ[البقرة:269]

والحكمة معرفة غير منصوصة وهي آية التعقل والتأمل وقد علّمها الأنبياء إلى جانب تعليمهم النصوص الدينية الإلهية "ويعلمهم الكتاب والحكمة"

وثمرتها كما في قوله تعالى : (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ )  [لقمان:12]

شكر المنعم وهو شكر قائم على ا لمعرفة يقرّب الإنسان من الله في مقامات القرب المعنوي الروحي.

وقال تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)  [النمل:64]

فها هنا تأكيد على الأساس العقلي من رفض أي فكرة ما لم يؤيدها البرهان الاستدلالي وفي ذلك انفتاح عظيم.

وقال تعالى: (ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ[يونس:36]

ورفض الظن أساس عقلي متين كما سبق، وما فرّق الناس إلا ظنون وما يجمعهم إلا اليقين بمراتبه من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حق اليقين.

وقال تعالى: (ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ[الزمر:17]

وما أعظمه من انفتاح، فالله يبشر المنيبين إليه والمتحررين من سلطة طواغيت يريدون أن يعبدوا من دون الله تجبراً وعتواً

وحين تعتمد هذه الأسس الدينية فسيكون للانفتاح الفكري مداه وآفاقه سواء بين أتباع الشرائع المختلفة أم بين أتباع دين السماء ودين الأرض أم بين أتباع الدين وأتباع اللادين وهذا أسلم للبشرية، وأقوم، وأحكم، ولن يضيق به الناس على اختلاف مواقفهم في الدين ومن الدين.

- ومنها أسس إسلامية:

وهي تنبع من الإسلام كما قوّمه ربه على لسان أنبيائه وأوليائه، وهي تعلي من شأن الحكمة وتجعلها ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.

فها هو ذا عيسى عليه السلام يقول (إن الحكمة نور كل قلب) فهل يجدر بإنسان أن يعرض بقلبه عن النور؟

وها هو ذا لقمان الحكيم يقول (يا بني تعلّم الحكمة تشرف، فإن الحكمة تدل على الدين) نعم بالحكمة يشرف الإنسان، وهي تدله على الدين، ولا تبتعد به عنه.

وذاك قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلمة الحكمة يسمعها المؤمن خير من عبادة سنة) وأي تنويه بالحكمة ودعوة إليها أعظم وأكرم.

وهو ذا الإمام علي (عليه السلام) يقول: (الحكمة ضالة المؤمن) فيحضّنا على البحث عنها ونشدانها حيث وجدت

وذاك الإمام الصادق (عليه السلام) يقول، وهو في قوله يتوئم الحكمة بالزهد في الدنيا ويجعله تربة صالحة لإنباتها في القلب لتتدفق من ثم على اللسان بتوفيق من الله تعالى.

- وللانفتاح أسس منهجية يقوم بها منهجه بأهدافه وأبعاده وطرائقه ووسائله وهذه الأسس منطلقات ومحدّدات لا غنى عنها وأبرزها.

1- رعاية العلاقة بين الدين والعقل، وليس ثمة تناغم وتلاؤم وتواؤم تقوم عليه علاقة كالعلاقة بين الدين والعقل، والعقل يدعو إلى الدين والدين يستند إلى العقل. "لقوم يعقلون" "لعلكم تعقلون" "أفلا تعقلون" و( لا دين لمن لا عقل له)، (والنبي عقل من خارج، والعقل نبي من داخل)، والعقل دليل على الله وسبيل إليه: وما أجمل ما قاله الشاعر:

أيصحّ عقلاً أنّ عقلاً مبدعاً                    قد أبدعته طبيعة بلهاءُ

ومن المؤسف أن يأتي أناس باسم الدين فينفون العقل ويرفضونه وأن يأتي أناس باسم العقل فيزورون عن الدين ويقلونه إلى أن يقول قائلهم:

اثنان أهل الأرض ذوعقل بلا                             دين وآخر دين لا عقل له

وليس ثمة حقيقة عقلية يعارضها الدين وليس ثمة حقيقة دينية يمجّها العقل، وكان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عقل الكل.

نعم ثمة حقائق يأتي بها الوحي من لدن الله لا طريق للعقل وحده إليها كحقائق ما بعد الدنيا التي جاءت في القرآن الكريم، وهي لا تتعارض مع العقل وإن كانت فوق العقل، ومتى أثبت بالبرهان العقلي أن هذا القرآن ليس من عند النبي وإنما هو من عند الله أذعن العقل لها وصدّق بها.

2- رعاية العلاقة بين الدين والعلم: وإذا كان الدين من عند الله والعلم صفة ذاتية لله وهما فيض من لدنه فلا يمكن أن يتعارضا ولذا لن تجد حقيقة علمية ثابتة يعارضها القرآن الكريم وحسبك شهادة عالم طبيب أوربي وهو موريس بوكاي في كتابه (العلم بين التوراة والانجيل والقرآن)، وقولة جورج سارتون صاحب كتاب (تاريخ العلم) من أن البشرية لم تستغن طيلة عمرها عن مثلث هو العلم والدين والفن.

نعم ينبغي عدم تعصب المتدينين لفرضية علمية إذا ظهر بالعلم بطلانها، كما تعصب بعضهم لنظرية بطليموس، وألا يقوم نزاع وصراع بين الجهات الدينية والعلماء في اكتشافاتهم وما أسوأ تاريخ التنكيل من قبل بعض ممثلي الدين بعلماء كبار في القرون السالفة، كما فُعل بكوبرنيكس وغاليليو.

ولا يمكن إغلاق الأبواب في وجه العلم والعلماء، ولا طريق إلى تقدم العم إلا بحرية البحث العلمي وتشجيعه، وكل ما يمكن أن يدقّق فيه ألا يستخدم العلم فيما يؤذي البشرية، ويدمّر الأمن العالمي تحقيقاً لمصالح غير مشروعة لقوى طاغوتية مستكبرة.

3- حفظ الموضوعية في التعامل مع فكر الآخر:

ومن الأهمية بمكان حين نعرض فكر الآخر لنرد عليه ونناقشه ألا نحمل عليه ما قيل عنه، وما قوّله إياه سواه بل ما صرح به وفي مراجعه المعتمدة، وأن تورد النصوص له بأمانة ودون ابتار وانتقاء وتصرف وتطرح أدلته بأحسن ما جاء عنه.

ومن الأمثلة المعاصرة ما قام به العلامة المجدد السيد محمد باقر الصدر في كتابيه فلسفتنا واقتصادنا عند عرضه للنظرية الماركسية على الصعيدين تمهيداً لمناقشتها، فقد قدم فلسفتها واقتصادها من نصوصها المعتمدة وبأدلتها المتقنة إلى حيث كان الماركسيون يدرّسون نظريتهم من خلال كتابيه.

4- عدم نسبة الآراء الشاذّة لدى بعض المدارس الفكرية إلى المدرسة كلها، ففي كل مدرسة رأي معتمد متفق عليه عند أساطينها وأعمدتها الفكرية، وثمة آراء شاذة نادرة جاء بها من ينتمي إلى تلك المدرسة، ولا يوافقه عليها أركانها وأعمدتها من رجالاتها، فلا يليق التمسك بتلك الآراء الشاذة المتفردة ونسبتها إلى المدرسة كلها، لأن ذلك التمسك مخالف للإنصاف والموضوعية والانفتاح.

5- عدم ادعاء الاستئثار بالحقيقة الدينية والمذهبية:

من آداب الانفتاح في حوارات أتباع الأديان والشرائع بل المذاهب في الدين الواحد والشريعة الواحدة؛ ألا يدعي أحد أنه صاحب الحقيقة الدينية والمذهبية بلا منازع، وأن الآخر دخيل وشاذ ومبتدع، نعم لكل أن يعتقد أن منهجه هو الأسلم والأقوم ولكن بتهذيب وأدب واحترام، وبنقاش علمي موضوعي مستدل في المنتديات العلمية، لا في الشارع والقنوات المغرضة استثارة للغرائز وتأجيجاً للصراع، وأن يكون من الداعي إلى فكرته ولا سيما الدينية مصداقاً للآية الكريمة: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ[النحل:125]

وقوله تعالى: (ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ[آل عمران:64]

وقوله عز من قائل (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ[سبأ:24]

رابعاً: وسائل الانفتاح الفكري:

1- الحوار الشامل: إن مبدأ الحوار هو سبيل العقلاء إلى تحقيق قيمة التعارف سعياً إلى التآلف، ويجب إطلاق مختلف ألوان الحوار ومنها:

  1. حوار الحضارات: ففي مقابل ما دعا إليه (هينتنغتون) من صراع الحضارات وما ادعاه (فوكوياما) من تفوق الحضارة الغربية وأحادية الحضارة وما يروج له محدود الآفاق من تفاوت الأعراق والأجناس والشعوب في قابليتها للتحضر، ينبغي السعي بجد وموضوعية وإنصاف إلى كتابة التاريخ الحضاري ليتبين من خلاله مشاركة البشرية في بناء الحضارة، تقدم من تقدم من شعوبها وتاخر من تأخر، نهض من نهض منهم، وتخلّف من تخلّف، وأن مشعل الحضارة لا يبقى بيد شعب أو منطقة جغرافية وأن الحضارة الإنسانية واحدة يشارك فيها الجميع، وتحتاج إلى الجميع، ولم تستقل ولن تستقل بها أمة من الأمم، وعلى الأمم المتقدمة المتطورة أن تفسح المجال وتفتح الأبواب لغيرها للأخذ بأسباب الحضارة والرقي المادي والتقني والفني والعلمي، لأن مردود ذلك سيعود على البشرية جمعاء.
  2. حوار الثقافات: وتستند الحضارات إلى ثقافات تمثل البعد المعنوي والفكري والقيمي والفلسفي لها، وحوار الثقافات حاجة بشرية إنسانية، ومن حوارها ينبثق النور وتتدفق أنهار الحكمة، ولكل ثقافة نكهتها المميزة، ومن اجتماع النكهات تكون النكهة الأحلى.
  3. حوار الأديان: وإذا كان ثمة ثلاث رؤى:
    أولاها: أن الدين واحد ولكن الشرائع مختلفة.
    ثانيتها: أن ثمة أدياناً متنوعة سماوية.
    ثالثتها: أن ثمة أدياناً سماوية وأدياناً أرضية.
    فلا ريب في أن الصراع بينها جميعاً لن يثمر ما يثمره الحوار من إيجابيات تنعكس على المنتمين إليها في شتى أصقاع الأرض، بما يقرب الهوة ويقلل المسافة الفاصلة ويوحد الجهود لخدمة المشترك بينها.
  4. حوار المذاهب في الدين الواحد:
    ولن تجد ديناً سماوياً بدون مذاهب، والمذاهب حقيقة قائمة لا يمكن تجاهلها، ولها دواعيها، ومن الحكمة والدين أن يقرّب لا أن يبعّد بينها، وأن تلتمس الوشائج والأواصر لتعزيزها، وأن تقوم العلاقة بين علمائها تحت مظلة الدين الواحد، وبالحوار المخلص الجادّ.

2- النقاش العلمي في المجامع المتخصصة بين أفذاذ العلماء:

من آفات الانغلاق الفكري أنك تجد في كل علم من يضيق ذرعاً بغير علماء وطنه أو منطقته أو قارته، على الرغم من أن العلم أي علم لم يقم إلا بجهود متضافرة متراكمة على مر التاريخ من علماء ينتمون إلى العالم الواسع. ومن المفيد أن يطلع العلماء في كل علم -كما هو حاصل أحياناً- من مختلف بقاع الأرض على الرؤى والتجارب والإنجازات والابتكارات لتتلاقح وتتناغم وتتفاعل، ويعود خيرها على البشرية كلها ولا يكون ذلك إلا في المجامع المتخصصة وبين أفذاذ العلماء.

وينسحب ذلك على علماء الدين فحيث التقى كبارهم ومراجعهم ومتميزوهم كان للقاء أثر طيب محمود، وحيث ترك الأمر لصغارهم والراغبين في الشهرة والمقتاتين على الصراع منهم، كان الخطر كل الخطر في استفزاز شارع من هنا وشارع من هناك وتحريك الغرائز وتأريث الصراع.

3- توثيق العلاقات على أساس المشتركات بين مختلف البيئات الفكرية:

والأصل الأصيل لتوثيق العلاقات بين مختلف البيئات الفكرية إنما يقوم على أساس المشتركات بحثاً عنها والتماساً لها ثم إبرازها وتأكيدها وإشاعتها في الناس لتشغلهم عما يوسوس به دعاة الصراع من جوانب الاختلاف والتباين، وليعلم الناس أن الأسرة الواحد لا يتفق فيها الاخوة والاخوات في كل شيء مثلاً، ولكن الاسرة الرائدة هي التي يلتقي فيها أولئك على المشتركات ويغضون الطرف عن سواها فتكون من ذلك علاقات أوثق وأعمق وأونق.

خامساً: آثار الانفتاح الفكري:

إذا كان الفكر هو الأرضية والبنية التحتية لكل ما يقوم عليه من النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية فإن الانفتاح الفكري في المجاميع البشرية ستكون له آثاره الإيجابية على مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدولية، وبشيء من التفصيل:

  1. الانفتاح السياسي: وعلى أساس الانفتاح الفكري سيقوم انفتاح سياسي بين القوى الدولية ومختلف الدول يركز على المشتركات السياسية: كاحترام حق تقرير المصير، وحق كل شعب في التقدم والتطور، ورعاية القيم المشتركة والمصالح المشتركة، ونفي كل ظواهر الاستعلاء السياسي والهيمنة السياسية وما أفرزته من تاريخ الاستعمار البشع وجرائمه والاعتذار عنها والتعويض على الشعوب التي ابتليت بها، وإنهاء الكيانات العنصرية الاحتلالية الاستيطانية.
  2. الانفتاح الاقتصادي: ويقوم كذلك انفتاح اقتصادي، تختفي من أمامه العولمة الاقتصادية وسيطرة الحيتان الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات، ويقوم نظام اقتصادي عالمي يفسح للدول الصغرى فضلاً عن الكبرى تحقيق مصالح مشتركة على أساس من النديّة وخير الجميع والإفادة من الاقتصادات الوطنية وتشجيع تطورها والقضاء على ثالوث الفقر والجوع والوباء من العالم.
  3. الانفتاح الاجتماعي: وتتعارف المجتمعات بما لها من تنوع وتشكل معاً صورة عالمية تتوسطها معالم الوحدة وتطرّزها مظاهر التميز وتتلاقى الألوان والأجناس والعناصر والمكونات الدولية والقبلية في لوحة متناسقة منسجمة تقول للتاريخ ها هو ذا العالم كما يحبه الله ويتوق إليه الناس.

 

سادساً: اتجاهات نحو الانفتاح الفكري:

ومن الواقعية أن نعترف بأن الانفتاح الفكري ليس الاتجاه الواحد السائد في العالم بل ثمة ثلاثة اتجاهات لكل اتجاه منها ممثلوه وداعموه وسنختار الاتجاه الأمثل الأفضل الأجمل.

الاتجاه الأول: رفض الانفتاح الفكري (الانغلاق الفكري)

ولهذا الاتجاه مع الأسف دعاته المتحمسون له قديماً وحديثاً، وطالما تغنى الغرب على لسان أولئك بأنه أرقى نوعاً وعنصراً وقابلية وقال قائله "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"

وحاول بعضهم أن يدّعي زوراً أن العالم ينقسم إلى مستويين، وسوّغ استغلال المستوى المتقدم للمستوى المتخلّف، وكان من الثمار المرة لذلك إبادة الهنود الحمر في الأمريكيتين، واستعباد الأفارقة الأحرار وإزهاق أرواح الملايين منهم لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية في القرون الأخيرة، وإقامة النظام العنصري في جنوب إفريقية والاستعمار الغربي لبلاد العرب وقتل الملايين من الثوار والأحرار، والاحتلال الصهيوني لفلسطين بدعم من الغرب، وما ارتكبه وما يرتكبه من آلاف الجرائم بحق الشعب الفلسطيني قتلاً وتشريداً واضطهاداً، وجرائم ما يسمى بالتحالف الدولي بقادته وعملائه ضد الشعوب في العراق وليبية وتونس ومصر وسورية واليمن والبحرين والسعودية والمؤامرة الكبرى للقضاء على قضية فلسطين وتهويدها حتى عاصمتها القدس الشريف فضلاً عن الحربين العالميتين وعشرات الملايين من ضحاياها، وخطر السلاح النووي بأيدي الغربيين والصهاينة.

الاتجاه الثاني: الانفتاح الفكري الأعمى.

وإذا كان الانفتاح الفكري مطلوباً ومرغوباً ومحبوباً فإن بعضهم انساق فيه إلى أبعد آماده غارقاً في التقليد والتبعية والانبهار بالمجتمعات المتقدمة والدول المتطورة بما يجعله ذيلاً وتبعاً بل عميلاً لها ضد وطنه وأمته وعلى حساب القيم والثوابت، مغرماً بكل جديد ولو كان فيه السم المبيد.

الاتجاه الثالث: الانفتاح الفكري المتبصر.

وينطلق هذا الاتجاه من فرز الثوابت والمتحولات، وعناصر الأصالة وعناصر الحداثة، وما يناغم العقل وما يوائم الهوى، وما يحقق التعارف بين الشعوب والأمم، وما يجعل بعضها مطية لبعض، وما هو من مقتضيات المصلحة المشتركة، وما هو من مقتضيات الهيمنة والاستغلال، وفهم ظاهر الأمور وما وراء الظاهر مما ينطوي على المكر والخديعة والتآمر.

ليحدد على ضوء القراءة الواعية الحصيفة الحكيمة ما يحقق الانفتاح الفكري وما وراءه من انفتاح سياسي واقتصادي واجتماعي بخيره الذي يعم الجميع فيسعى إليه، وما ليس من الانفتاح بل هو من الذل والخضوع والانبطاح فيزَوّر عنه.

وهذا الاتجاه الأخير هو ما ينبغي أن نصرّ عليه وندعو إليه ونثبت أركانه ونشيّد بنيانه، ونجعله رسالتنا إلى فجر البشرية المنشود وغدها الموعود.

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة