ولاية الله سبحانه والولاية المضادّة في القرآن الكريم ودورهما في الوحدة والفرقة

مقالات

2021/02/08

title

ولاية الله سبحانه والولاية المضادّة في القرآن الكريم ودورهما في الوحدة والفرقة

 

المحور الأول - في الولاية عموماً

 أولاً: الولاية في اللغة:

  1. قال الراغب:(الولاء حصول شيئين ليس بينهما ما ليس منهما، ثم استعير للقرب مكاناً ونسبة وصداقة ونظرة واعتقاداً، والولاية بكسر الواو النصرة، والوَلاية بفتح الواو تولي الأمر، وقيل الولاية والولاية واحدة نحو الدِّلالة والدَّلالة، وحقيقته تولي الأمر. والوليّ والمولى يستعملان في ذلك كل واحد منهما، يقال في معنى الفاعل أي الموالِي (بكسر اللام)، ومعنى المفعول أي الموالى (فتح اللام)، يقال للمؤمن: هو وليّ الله عز وجل، ولم يَرِد مولاه، وقد يقال: الله وليّ المؤمنين ومولاهم).

يرى العلامة الطباطبائي في قول الراغب رأياً (والظاهر أنّ القرب المكاني المعبّر عنه بالولاية إنما اعتبر في الأجسام وأمكنتها وأزمنتها ثم استعير لأقسام القرب المعنوية، بالعكس مما ذكره، لأنّ هذا هو المحصّلُ من البحث في حالات الإنسان الأولية، فالنظر في أمر المحسوسات والاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الإنسان من التفكير في المعقولات وأنحاء اعتبارها والتصرف فيها) (الميزان 12\6).

ثانياً: المعنى السائد للولاية في القرآن الكريم:

ويذهب العلامة الطباطبائي إلى أن ثمة معنى يسود في مختلف ألوان استخدام كلمة الولاية في القرآن (فالمحصّل من معنى الولاية في موارد استعمالها نحو من القرب يوجب نوعاً من حقّ التصرف وملكية التدبير) (الميزان 12\6).

 ويوضح هذا المعنى السائد في موارد استعمال كلمة الولاية بقوله (ووليّ النصرة يتصرّف بأمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، والله سبحانه وليّ عباده، يدبّر أمرهم في الدنيا والآخرة ولا وليّ غيره، وهو وليّ المؤمنين يدبرّ      أمر دينهم بالهداية والدعوة والتوفيق والنصرة وغير ذلك، والنبيّ ولي المؤمنين من حيث إن له أن يحكم فيهم ولهم وعليهم بالتشريع والقضاء) (الميزان 12\6).

ومن المهم هاهنا التنويه بأنه حيث ذكرت ولاية الله في القرآن الكريم وما ينبثق عنها في قوس النزول من ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يتفرع عن هذه من ولاية لخاصّة المؤمنين كما في قوله تعالى:(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة 55).

فإنما تعني أن الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهكذا رسوله الخ... بقرينة حديث الغدير إذ يمهّد الرسول فيه -كما يرى أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام لإعلان ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام بسؤاله: ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم؟ وحين يأتيه الجواب ممن قرؤوا القرآن ووعوه: بلى يا رسول الله، يقول: ألا من كنت مولاه (أو أولى به من نفسه) فعليٌ مولاه.

 وقد ذكر هذا المعنى على نحو من الإجمال العلامة الطباطبائي فيما سيأتي من حديثه عن الولاية التشريعية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولكنّ العلامة يجزم بأن معنى ولاية الرسول الكريم في القرآن المجيد لا يتضمن نصرة النبي للمؤمنين وأنه ولاية التصرف وما يقتضيه من الحب والمودة (ولذلك لا نجد القرآن، يعدّ النبيّ ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة، وحاشا ساحة الكلام الإلهي أن يساهل في رعاية أدبه البارع)

وهذا من أقوى الدليل على أن المراد بما نُسب إلى النبي من الولاية في القرآن هو ولاية التصرّف أو الحبّ أو المودّة كقوله تعالى:(النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ...) (الأحزاب 6)، وقوله تعالى:(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (المائدة 55).

فإن الخطاب للمؤمنين، ولا معنى لعدّ النبيّ ولياً لهم ولاية النصرة كما عرف) (الميزان 7-8\6).

ولعلّ من المناسب أن يقال هنا إنّه ليس ثمة مشكلة في إسناد الولاية بمعنى النصرة إلى النبي تجاه المؤمنين كما في نصرة الله لعباده ولكن المهمّ أنّ معنى أنّ النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم قائم في ولايته عليهم وأن رأفته ورحمته كما في قوله تعالى:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة 128) وسواها من المحبّة والمودّة لهم إنما هي من لوازم ومقتضيات هذه الولاية بمعنى(أنه أولى بهم من أنفسهم)، وكذلك الأمر في ولاية خاصة المؤمنين المتفرعة من ولايته.

ويذهب العلامة في موضعٍ آخر من تفسيره إلى توضيح هذا المعنى وتنقيحه (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ...) (الأحزاب 6) معناه أنه أولى بهم منهم، وإذا دار الأمر بين ما يراه المرء لنفسه من الحفظ والكرامة فالنبي أولى به منه، وعلى المرء أن يفديه بنفسه، وكذا النبي أولى بهم في أمورهم الدينية والدنيوية لمكان الإطلاق) (الميزان 276\16).

 ثالثاً: الولاية في قوسي النزول والصعود:

تبيّن من المعنى اللغوي والاصطلاحي والاستعمال القرآني للولاية أنها ذات قوسين، قوس نزول فهي كما ورد في قوله تعالى:(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة 55).

وقوس صعود كما في تتمة الآية المذكورة (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة 56).

وسيأتي مزيد من الحديث عن هذه الآية في الولاية الإيجابيّة المقابلة للولاية السلبيّة.

 ولكن كَلمة وليّ كما ذكر تستعمل في الاتجاهين فتارة (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...) (البقرة 257) و (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (محمد 11).

وتارة (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس 62).

 فالمؤمنون ها هنا أولياء الله وإن كانوا مواليه.

ويلاحظ الشيخ الجوادي الآملي ملاحظة قيّمة هاهنا وهي أنّ (الولاية إضافة متوافقة الطرفين – لا متخالفة الطرفين كالأبوة والنبّوة - فالإنسان وليّ الله والله وليّ الإنسان فهي كالأخوّة مع حفظ الفارق. فمن كان قريباً من الله فالله قريب منه. لكنّ القرب حاصل من الله دائماً، وليس كذلك من قبل الإنسان، فثمة إضافة إشراقيّة حيث ليس إلا المضاف إليه، لا إضافة اعتباريّة مقوليّة حيث يتساوى الطرفان ويكون الارتباط بينهما على حد سواء).

وسيتّضح فيما يأتي من الحديث عن الولاية والتولّي أنّ الولاية من حيث الأصل (لله) وأنّ الانبثاق (إلى رسول الله) وإلى (ولي الله) هو بيد الله لا بيد سواه فهو يفيضها على من يشاء من عباده وأوليائه. وكلهم مواليه. وليس لأحد أمامها اختيار، وأما التولّي لله ولأولياء الله فهو فعل إنسانيّ مختار قد يأخذ بهذه الولاية إيجاباً فينعم بخصوصيّات وآلاء وبركات، وقد لا يأخذ بها ويتعامل معها سلباً. ويلوذ بسواها فيتعلق بأوهام وأباطيل وترّهات.

 ويرى الشيخ الجوادي الآملي أن الولاية للإنسان على نفسه طريق لاستدلال الإنسان على ولاية الله على خلقه؛ فكما تهيمن نفسك على تصرفاتك الاختيارية باعتبار هذه التصرفات صادرة عنها وخاضعة لها، فإن الله له ولاية مهيمنة على خلقه وقد صدروا عنه وخلقوا بأمره وهم أثر من آثاره، وتشملهم هذه الولاية جميعاً شاؤوا أم لم يشاؤوا لأنها فرع ربوبيته العامة الشاملة، ولكن ثمّة ولاية خاصة كرحمته الخاصّة للمؤمنين وولاية أخص للأنبياء والأولياء وعباده المقربين، وفي الولايتين الأخيرتين هاتين يكون من معاني الولاية ومقتضياتها لطفه ومحبته ونصرته.

رابعاً: الولاية الحقيقيّة والاعتباريّة:

 وبيت القصيد هاهنا - من معاني الحقيقة والاعتبار- كما يرى الشيخ الجوادي الأمليّ، أنّ ما لا دخل للإنسان وعمله الاختياري في وجوده وعدمه كولاية الله على الإنسان (وما ينبثق عنها من ولاية النبيّ، وما يتفرع عنها من ولاية خاصّة المؤمنين) وكذلك ولاية الإنسان على نفسه إنما هو ولاية حقيقية.

 وأما ما للإنسان ولعمله الاختياري دخل في وجوده وعدمه كالملكية والرئاسة والزوجية فهو اعتباريّ.

 مع التأكيد على نقطتين:

  1. أن ولاية غير الله بتأكيدها وبتأييدها من الله تعالى - وإن كانت حقيقية وبأمر من الله- ليست عرضية ولا طولية وإنما هي مظهر وتجلّ على نحو القناتيّة والانبثاق والتفرّع وتسري فيها وعليها وفوقها وقبلها وبعدها ولاية الله عز وجل.
  2.  أنّ كلّ ولاية حقيقيّة أو اعتباريّة إنما تستند بحسب التوحيد الأفعاليّ إلى الله تعالى كما تستند إليه الأمور الحقيقيّة والاعتباريّة جميعاً.

خامساً: الولاية التكوينية والتشريعية:

لله على عالم التكوين الذي أبدعه وخلق ما خلق فيه، بما هو موجده وربّه (...أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ...) (الأعراف 54) ولاية تكوينية؛ لا تتخلّف ولا تحدّ ولا تردّ ولا ينوب عنها سواها ولا يفوّض في أمرها إلى أحد من الخلق، وما الملائكة إلا موظفون مخلوقون سُخروا في خدمتها وهم رهن مشيئتها، وما يجري على أيدي بعض الأنبياء إنما هو تجلَّ من تجلياتها وبإذنها، ولا يملك أحد من دون الله من نفسه لنفسه شيئاً ولا يفارقه فقره الذاتي وارتباطه وخضوعه لله عز وجل.

ولله على عالم التشريع بما يشرّعه للناس من منهجٍ إلهي يحكم به أفعالهم ويصنّفها في مناطق من الحلال والحرام والوجوب والاستحباب والكراهة. ومن أوضاع كالزوجيّة وسواها ومن ميراث وحدود وقضاء وغيرها ولاية هي الولاية التشريعية، وكل من ائتمن على تفصيل أبعادها وجوانبها وأركانها ومكوناتها من نبيّ أو وليّ؛ فإنما يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بخضوعٍ وانقياد وأمانة لما قضى به وشرّعه الله تعالى لا يجاوزه ولا يتعداه.

وما ثبت للنبي الأكرم - لا على نحو التفويض - من التبيين للشرع والتفصيل فيه:(...وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...) (النحل 44).

ومن القضاء بين الناس بما أراه الله:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (النساء 105).

وما جعل له من التصرف في أمورهم وما يشجر بينهم من اختلاف؛ ومن الحكم مقترناً بتسليمهم له قلباً وقالباً شرطاً لقبول إيمانهم بالله تعالى:(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

 كلّ ذلك إنما هو من الولاية التشريعية التي جعلها الله لنبيّه من لدنه. وهو القدر المسلّم بموجب نصّ القرآن عند جميع المسلمين.

 نعم تفترق الولاية التشريعية عن التكوينية بأن التكوينية لا تتخلف، وأما التشريعية فهي تخاطب الناس المختارين وهم بين منقاد لها باختياره ومتمرد عليها باختياره، ولكن الجميع رهن الإرادة التكوينية في الدنيا والآخرة ومحاسب على موقفه من الإرادة التشريعية والولاية التشريعية عند الله تعالى.

سادساً: أولياء الله بين الهبة والاكتساب:

 أمّا أنّ إنساناً كيف يكون ولياً لله ويصل إلى هذا القرب المعنوي وهو أرقى وأسنى وأغنى ما ينبغي أن يتطلع إليه الإنسان، فثمة من وهبوا تلك الولاية ولكن هذه الهبة الإلهية لا تكون عبثُا وإنما هي توءم الحكمة الإلهية والعلم الإلهي:(...اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...) (الأنعام 124)، وكذلك هو أعلم حيث يجعل الولاية، وإن اقتضت العصمة وهي بدورها موهوبة من الله تعالى للأنبياء والأوصياء ولبعض من سواهم؛ لكنّ العصمة ها هنا لا تعني منتهى شوطهم من الكمال وموقعاً محدداً لا يتعدونه من القرب، وإنما هي منطلق حركتهم ومعراجهم المعنوي، وهم فيه يتنافسون ويتفاضلون ويتفاوتون بحسب ما يبذلون ويضحّون ويقدّمون ويتقرّبون ويتكاملون.

لكن الطرق لغير المعصومين ليست مغلقة في وجه سيرهم في معراج الولاية إلى مستويات رفيعة من القرب ولا في تحققهم بعصمة مكتسبة، ولكنّ ذلك يتطلّب جهداً وجهاداً على صعد المعرفة والإيمان والتقوى والخلق والعمل.

 فإذا وصل واصل فهو مصداق لقوله تعالى:(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس 62-63).

 ويقول العلامة الطباطبائي في ذلك (فالله سبحانه وليّ عبده المؤمن؛ لأنه يلي أمره ويدبّر شأنه فيهديه إلى صراط المستقيم، ويأمره وينهاه فيما ينبغي له أو لا ينبغي له وينصره في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والمؤمن حقاً وليّ ربّه لأنه يلي منه طاعته في أمره ونهيه، ويلي منه عامة البركات المعنويّة من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد، وما يعقبها من الإكرام بالجنة والرضوان) (الميزان 89\10).

 ويضيف (وبورود الإنسان في رياض الولاية الإلهية وقربه من مقام القدس والكبرياء ينفتح بوجهه باب إلى ملكوت السموات والأرض) (الميزان 90\10).

 ولآفاق البحث في ترقّي الإنسان إلى أن يكون وليّ الله والبراق المنشود إلى هذا الترقّي بحث منيف شريف في كتاب (ولاية الإنسان في القرآن) للشيخ الجواديّ الآمليّ، ومنه اقتبست كلّ نفحات الشيخ الجليل في هذا البحث.

المحور الثاني: الولاية الإيجابية والولاية السلبية (المتضادّة)

 أولاً: في المضمون

 ليس ثمّ في الكون وعلى الإنسان إلا الولاية الإلهيّة، وهي الولاية الحقّة الحقيقيّة تكوينيّة  وتشريعيّة؛ وأما ما سواها من ولاية يدّعيها مُدّع أو يتعلّق بها متعلّق فهي ولاية باطلة وسراب لا حقيقة له؛ لأن الولاية كما سبق من لوازم الربوبيّة، ولا ربوبيّة إلا لله تعالى في عالم التكوين وعالم التشريع، وكل ربوبيّة لسواه وهم وهباء.

 وقد اصطلح على تسمية ولاية الله بالولاية الإيجابيّة. وأما ما ينبثق عنها من ولاية رسول الله وما يتفرع عنها من ولاية ولي الله فإنما يعود ويؤول إلى ولاية الله؛ وليس أكثر من مظهر لها وتجلّ بمشيئة الله، والله هو الأول والآخر والظاهر والباطن وولايته هي الولاية فلا علاقة عرضية ولا طولية كما تبيّن مما سبق.

 أما الولاية السلبية أو (المضادة) فهي ولاية مَن سوى الله في مقابل ولاية الله، كما ادّعاها بعض المدعين وتنطّع لها بعض المتنطّعين وآمن بها وخضع لها من خضع من المغضوب عليهم والضالين والكافرين والملحدين وقبيلهم أجمعين.

 وحقيقة الأمر أن ليس ثمة ولاية سلبيّة وإنما هو سلب الولاية عن سوى الله عزو وجل، وبيان أنها لا حقيقة لها وأنها باطل ومحض ادّعاء، وقد ذكر القرآن ذلك بتأكيده أن لا ولاية لغير الله تعالى:(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ...) (الشورى 9).

(...وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) (التوبة 74).

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد 11).

 ويمثّل القرآن الكريم للولاية السلبيّة الباطلة الموهومة المصطنعة وأنّها لا تحقّق شيئاً بمَثَل العنكبوت وبيتها الذي لا يقي من حر ولا برد ولا يستر ساكنه.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت 41).

وقد تذكر بعض الآيات القرآنية ولاية غير الله وهي لا تعني التوكيل وتركهم يعملون ما يشاؤون، وهي بقرائن من آيات عديدة تنفي أن يكون ثمة ولاية حقيقيّة لغير الله تعالى، وإن جاءت تارة بلغة الجَعْل:

(...إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف 27).

وتارة بلغة الإخبار:

(...وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ...) (البقرة 257).

(...فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل 63).

 ثانياً: ولاية المؤمنين بعضهم بعضاً وولاية غيرهم بعضهم بعضاً:

 ثمّة ولايةٌ متبادلة بمعنى النصرة والمحبة وسيأتي الحديث عنها في آثار الولاية الإيجابية من الوحدة والتعاضد والتعاون في القيام بالواجبات الدينية:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة 71).

وسيأتي الحديث كذلك عن آثار الولاية السلبية من التشتّت والتفرق على الرغم من ظاهر التعاضد والتآلف لأن الولاية السلبية كما أسلفنا ليست بولاية:

(...وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية 19).

ثالثاً: التولّي والتبرّي:

ويتناولان موقف العبد المؤمن من الولاية على الصعيد العملي؛ فإن كان مؤمناً فإن اعتقاده بولاية الله وأن لا ولاية لسواه من دونه، ينبغي أن يُترجم سلوكياً في توليّه لأولياء الله لا لأعداء الله، وتبرّيه من كل صلة روحية وتعاطف حميم وولاء لهم وتعويل عليهم والعمل لتحقيق مصالحهم وأغراضهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 ولذا جاء التحذير للمؤمنين من تولّي غير الله من دونه والموادّة لهم والدعوة إلى تولي الله ورسوله والذين آمنوا بأساليب متعددة منها:

  1.  أسلوب الشرط:(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة 56).
  2. أسلوب النفي:(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة 22).
    وما أعظم هاتين الآيتين من شهادة إلهية في وصف حزب الله من لدن الله وتبيين خصائصه والوعد له بالغلبة والفلاح؛ وهو حزب الولاية الإيجابية والتولّي لأولياء الله.
  3. أسلوب النهي:(ياأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (الممتحنة 1).
    (...لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...) (المائدة 51).
    (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ...) (آل عمران 28).
    (...لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ...) (المائدة 57).

     ففي النهي عن تولّي عدو الله وعدوّ المؤمنين وعن تولي الكافرين والمستهزئين بالإسلام، وحتى الآباء والإخوان من الكافرين دعوة إلى التبرّي منهم. والإنذار لمن يواليهم بأنّه منهم وليس من الله في شيء وأنّه من الظالمين.
  4. أسلوب الأمر:(...فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء 76).
     وفي الأمر هنا دعوةٌ إلى ما هو أبعد من التبرّي؛ ألا وهو قتال أولياء الشيطان والوعد بالنصر حين يتواجه الفريقان ويتجابهان:
    (الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء 76).
  5. أسلوب الاستفهام الإنكاري:
    (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء 139).

المحور الثالث: الولاية الإيجابية والسلبية في الأمة:

 آثار الولاية الإيجابية في الأمة:

  1.  العزّة:(...فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء 139).
  2.  الرحمة:(...وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى 28).
  3. الغلبة:(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة 56).
  4.  الفلاح:(أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة 22).
  5.  الغفران:(...أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) (الأعراف 155).
  6.  الصلاح:(...فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف 101).
  7.  نفي الخوف من المستقبل والحزن على الماضي:(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس 62).
  8.  حسن الثواب والعاقبة مع ظهور الولاية لله الحقّ في الآخرة:(هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) (الكهف 44).
  9.  دار السلام عند الله والولاية الخاصّة بسبب أعمالهم:(لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام 127).

ثانياً: آثار الولاية السلبية في الأمة:

  1. الذلة:(...أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ...) (النساء 139).
  2.  الخسران المبين:(...وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) (النساء 119).
  3.  الضلالة:(...وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) (الكهف 17).
  4. الاتصاف بالظلم:(...وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة 23).
  5.  الضعف والخذلان:(...فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء 76).
  6.  العذاب الأليم:(...فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل 63).
  7.  الابتلاء بالولاية الكاذبة جنباً إلى جنب مع الكافرين وأعداء الله:(...وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...) (المائدة 51).
  8.  الحرمان من الولاية الخاصّة:(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد 11).
    وفي كل ذلك من عوامل التفرق والتشتت في الأمة ما فيه.

ثالثاً: موازنة بين الولاية الحقيقية ودورها في الوحدة والولاية المضادة ودورها في التفرقة:

  1.  ظاهر الولاية الحقيقية وباطنها محبة فهي تؤسّس للوحدة وترسّخها في النفوس، وأما ظاهر الولاية المضادة فمحبّة وباطنها عداوة:
  2. الولاية الحقيقية تدبّر أمر أوليائها وتعقد أواصر القربى بينهم بعد إذ تحققوا بمقام القرب، وأما الولاية السلبية المضادة فعاجزة عن تدبّر أمر زعمائها فضلاً عن أتباعها باعتراف أولئك الزعماء أنفسهم، وهذا ما يتضح في آخر المطاف لكلّ غافل:
    (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم 22).
  3. وليّ الولاية الحقيقية واحد وأولياء الولاية المضادة متشاكسون؛ وهذا ينعكس على من يتولاهم وحدة في الأولى وفرقة وتشتيتاً في الأخيرة:
    (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر 29).
  4. الولاية من لوازم الربوبية ولا وحدة إلا بالربّ الواحد، وكل ربوبية من دونه وولاية لازمة لها تفريق وتبديد وشرذمة بأرباب متفرقين:
  5. وصف الله تعالى وهو خير الواصفين ولايته للذين آمنوا بأنها إخراج لهم من الظلمات إلى النور والولاية المتضادّة بأنها إخراج للناس من النور إلى الظلمات، والنور واحد والظلمات شتّى مفرِّقة:(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة 257).
  6.  تولّي الولاية الحقيقية هو الصراط المستقيم من الله إليه، وأما تولّي الولاية المضادّة فهو اتّباع للسبل وهي مفرّقة للأمة:
    (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام 153).
  7. محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن ولايته على الأمة المقرّرة بنصّ القرآن الكريم:(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...) (المائدة 55).
     وبما أنه رسول الله وخاتم النبيين:(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب 40) فولايته تشمل أتباع الرسل والأنبياء أجمعين؛ بل هو رسول الولاية الحقيقية إلى العالمين:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107).
  8.  ولأنّ القرآن الكريم هو المصدّق لكلّ الكتب السماويّة والمهيمن عليها وفيه كلّ ما هو نقيّ فيها وليس فيها كلّ ما فيه:
    (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة 48).
     لكلّ ذلك كان القرآن كتاب الولاية الحقيقية الذي يستوعب الكتب السماوية السابقة ولا تستوعبه.
  9.  وكذلك لمّا كان الإسلام هو الدين عند الله:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران 19).
    وهو يسَع الشرائع السماوية كافة ويطلب من أتباعه الإيمان بها جميعاً:(آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة 285).
    كان إذاً دين الولاية الحقيقية، ومن هاهنا كان ظهوره على الدين كلّه ظهوراً للدين كلّه ولحساب كلّ أتباع الشرائع لا على حسابهم.
  10. وإذا كان خطّ الإمامة المعصومة وهو امتداد خطّ النبوة بنصّ القرآن متفرّعاً من ولاية الرسول الأكرم المنطلقة من ولاية الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) (المائدة 55).
    كان هو من ينفح الأمّة بأمّة طليعيّة داخل الأمة، تسهر كما الأئمّة على وحدتها، وترفض كل دعوات تشتيتها مهما كان ثمن الموقف، أي حتى لو بلغ مستوى تخلّي الأئمة عن المطالبة بالحكم وهو فرع من فروع ولايتهم:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) (آل عمران 104)، علماً بأن ولايتهم شيءٌ لا يغيّره إقبال الناس أو إدبارهم كما ولاية النبيّ، ولا يغضّ منها أن يُوطّأ الحكم لهم أو يُنتزع من دونهم، بل لم يكن لديهم أدنى شهوة لأن يحكموا دون قبول أو إقبال من الناس؛ وهم الأكثر وعياً للفرق بين المشروعيّة والمقبوليّة.

ختاماً: دعوة مخلصة:

 لقد تشتتت الأمة في ولاءاتها -وهو أمر أخطر من اختلافها في رؤاها السياسية من إقليمية وقومية ويمينية ويسارية- فإذا بنا نجد ضمن تلك الرؤى من يجعل ولاءه لقوى استكبارية أوقل استعمارية، ولا يجد بأساً في إقامة صلات وتقديم خدمات وترتيب تفاهمات مع العدو الصهيوني وكان حرياً به ألا ينحدر إلى ما يمسّ أمن الوطن وثوابت الأمة وقيم الإنسانية، ولكنّ الطامّة الكبرى تمثّلت في من يُقدّمون أنفسهم بعنوان أنّهم إسلاميّون ولكنهم يستمدّون الدعم من أعداء الإسلام وقوى معروفة بخدماتها القديمة المتجددة لأولئك الأعداء، فضلاً عن ادّعاء فريق منهم أنه على خط ولاية الله وولاية رسوله وسعيه أن يكره مَن سواه على فهمه للولاية وتطبيقاتها وأفقه في التفاعل معها إلى درجة إلغائه وإقصائه حيناً بل تكفيره واستحلال دمه وماله وعرضه، وآن الأوان بعدما صار بأس المسلمين بينهم واستعَرت الصراعات واشتدّت النزاعات، أن يتداعى عقلاء الأمة من علمائها ومفكّريها ومثقّفيها ولاسيّما المنتمين إلى الإسلام رؤية ومنهجاً وسلوكاً والمشغولين والمشغوفين بإبلاغ رسالة الإسلام إلى الدنيا ليتدارسوا بكلّ عزيمة وإخلاص وجدّيّة وإحساس بالمسؤولية واقع الإسلام والمسلمين في زماننا الحاضر وليخرجوا باستراتيجية جديدة تليق بهذه الأمة ودورها الرسالي والانسانيّ والحضاري.

ويا إخوة الإسلام، من العلماء والحركات والمنظمات، إن ولاية الله ورسوله والمؤمنين تنادينا إلى أن نتولاهم ونبرأ من كل ولاية لغير الله ورسوله والمؤمنين. وأن نلتقي لنبحث كيف نفعّل تولينا وتبرأنا على مختلف الصُعد سياسياً اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.

وما أعظمه من مشترك بيننا ينبغي أن يغلب كل الفوارق وعوامل التشتيت التي يوسوس بها ويعمل عليها أعداء الولاية الحقة الإيجابية ودعاة الولاية السلبية المضادة المصطنعة على أن نأخذ في الحسبان مصلحة وسلامة كل أرض من أوطان المسلمين ومجتمعهم وأمانهم وطمأنينتهم وحفظ أرواحهم وممتلكاتهم وحرمة مقدساتهم وصون أعراضهم وأموالهم وحيواناتهم، وكذلك كل من يشارك المسلمين في المواطنة.

ولنوحّد جهودنا باتجاه تحرير أرضنا المغتصبة في فلسطين، ولنجعل من هذا الاتجاه مقياساً لجديّة أيّ فصيل في تولّيه وتبّريه ولتتسع قلوبنا وأفكارنا لمن يخالفنا في مذهب أو اجتهاد ومن يشاركنا في هذا الهدف النبيل وهو استرجاع فلسطيننا الغالية من البحر إلى النهر وعاصمتها القدس ومسجدها الأقصى ومقدساتها جميعاً ليعود أهلها إليها أعزة كراماً، أياً كان هذا الشريك من أبناء الأمة في توجّه وطني أو قومي أو إنساني.

ولنتحول جميعاً إلى الولاية لله ورسوله والمؤمنين في مقابل كل من يتولّى المستكبرين وأعداء الإسلام وأعداء أي فريق أو فئة أو مذهب من مذاهب المسلمين الثمانية، ولنجعل من الصحوة الإسلامية نوراً وخيراً وبركةً وقوةً ومنعةً وانتصاراً للأمة كلّها بدلاً من تحولها خريفاً أو شتاءً يعصف بالأمة، وتمزيقاً لصفوفها وتدميراً لأوطانها وتبديداً لطاقاتها، ولنقدّم للبشرية الإسلام الذي شاءه الله وجسّده رسول الله في غناه وعمقه وسماحته وانفتاحه ورحمته.

 ولنتذكّر قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران 102\103\104\105\106\107).

 ولنرتق إلى أن نكون كما يحبّنا الله ورسوله:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران 110).

                                                                 والله من وراء القصد، والحمد لله ربّ العالمين.

 

  

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة