title
العالم العاقل وتأثيره في المجتمع
العلامة المجتهد السيد محسن الأمين(قد) نموذجاً
العلم مقولةٌ أخصّ من المعرفة ففيه ما ليس فيها من التفصيل والتدقيق والتخصَص ولذا جاء في القرآن الفعل يعلم منسوباً الى الله تعالى. عشرات المرّات كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة 216) ولم يرد الفعل يعرف منسوباً إليه، ولكن الفعلين ينسبان إلى الإنسان فهو يعرف، {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} (النحل 83) ، ويعلم {وعلمك ما لم تكن تعلم} (النساء 113).
ولكن العلم يمتاز بالشمول لكل ما يمكن أن يعلمه الإنسان بحسب سعته الوجودية أو يتعلّمه، (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق 5) ومن شؤون الدنيا والآخرة، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم 7) أو قل من علوم الدين وعلوم الدنيا.
ويقال عالم للمتخصّص المتبحّر المجتهد في واحدة من هاتين الفئتين، وينصرف الكلام في هذه المقالة إلى عالم الدين، لما له من تأثير في المجتمع ذلك أن الدين ولاسيّما الإسلام فطرة متجذّرة في عمق النفس الإنسانية (...فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30).
وهو أيضاً حاجة لارتقاء النوع البشريّ في معارج الإنسانيّة بما شرعه الله فيه من المنهج وتعاقب على تقديمه وتطبيقه الأنبياء المصطفون من لدنّه:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى 13).
ويتعاظم تأثير علماء الدين في المجتمع حين يطوون بالجهد الدؤوب المنظّم المتقن درجات التخصّص إلى مرتبة الاجتهاد والقدرة على استنباط الأحكام الشرعية التفصيلية من مصادرها ومظانّها في الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
وأما العقل فهو تلك القوة النظرية التأمّليّة التي متّع الله بها الإنسان وأفاضها عليه بآليّاتها المتعدّدة من فهم واستقراء واستنتاج وتحليل وتركيب وحكم ومحاكمة لترفعه في مراقي الإدراك عن الحيوان، ولكنّها في بعدها العملي ما يدبّر به الإنسان شؤون نفسه ومجتمعه ويحدّد فيها الأولويّات ويُحسن فيها الاختيارات، وأسناها ما يتّصل بخلاصه ونفع الآخرين والفلاح دنيويّاً وأخرويّاً وفي ذلك يقول الإمام (ع):(العقل ما عبد به الرحمن واكتسبت به الجنان).
ولا شكّ في أنّ العقل حاجة للعالم وأنّ العلم حاجةٌ للعقل، ويؤيّد ذلك قوله تعالى:(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت 43).
ويرى (مطهري) أنّ في معمل الإنسان آلة هي العقل ومواد أوّلية هي العلوم، ولا نفع للآلة بدون المواد الأوليّة فستبقى الآلة بدونها تدور وتدور دون أن تنتج شيئاً جديداً، ولا نفع للمواد الأولية بدون آلة بل يستحيل المعمل بدونها مستودعاً لا غَناء فيه.
وكذلك ما لم يصحّح العقل في بعده العمليّ الاختيارات وما لم يرتّب الأولويّات وما لم يرشد إلى الصواب في قضايا المجتمع فسيغدو علم العالم ولا سيّما عالم الدين ضرراً وخطراً على المجتمع يجرّ إلى دماره، وفي ذلك يقول عليّ (ع):(كم من عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه).
ويفهم من هذا القول أمور:
أوّلها: أنّ ثمّة جهلاً لا يقابل العلم فالكلام فيه عن عالم.
وثانيها: أنه كثيراً ما يقتل ذلك الجهل العالم والقتل تعبير عن سوء المآل.
وثالثها: أن العلم هاهنا لم يفارق العالم ولكنّه لا يجزئه ولا يغنيه ولا ينفعه ولا ينفع به.
ورابعها: ما يستنتج من هذا القول من أنّ سوء مآل العالم بنتيجة ذلك الجهل خطر وضرر على المجتمع كله، لأنه كما يقول السيد المسيح (ع) (العلماء كالملح في الطعام وبالملح يصلح الطعام فإذا فسد الملح فبماذا يُصلَح).
وخامسها: وهو النتيجة المطلوبة أنّ الجهل المقصود إليه في هذا القول والذي يجتمع مع العلم في العالِم ويحول دون انتفاعه وانتفاع الناس بعلمه ويؤول إلى قتل العالِم وقتل المجتمع به إنما هو الجهل في مقابل العقل، أي أنّ الآفة كلّ الآفة في عالم غير عاقل، وبمقدار ما يكون العالم العاقل خيراً وبركة على المجتمع يكون العالم غير العاقل ضرراً وخطراً وكارثةً عليه.
ولسنا بحاجة إلى تقديم الأمثلة والنماذج من العلماء غير العقلاء وما جرّوه وما يجرّونه على المجتمع في ماضي الأمة وحاضرها من مصائب، ونترك للقراء الألبّاء أن يلتمسوا أمثلةً ونماذج لعلماء الدين غير العقلاء فيما يعصف بالأمة هذه الأيّام من فتن تهدّد بتمزيق البلدان وتدمير الأوطان وتمزيق عرا الأمة وإفساد الإنسان، ومن ورائها أحابيل المستكبرين والصهاينة من جند الشيطان وأتباعهم لا من العرب بل من العُربان.
وما أحوجنا في هذه الأيّام إلى التماس النموذج المشرق لعالِم الدين العاقل وتأثيره الطيّب في المجتمع على صعيد من يلوذ به من محبّين، وما تنداح إليه دائرة تأثيره من وطن إلى أمّة إلى البشرية جمعاء،ومن أبرز مصاديق ذلك النموذج الفذّ المتميز العلامة المجتهد السيد محسن الأمين.
هو فضلاً عن عناوين عديدة اتّسم بها في قراءة الباحثين والدارسين كتباً ورسائل جامعيّة ومقالات في مؤتمرات ولقاءات وندوات مثل عنوان (المجتهد المجدد) و(المصلح الديني) و(رائد التقريب والوحدة بين المسلمين) و(داعية الحوار بين المتدينين)، وفضلاً عن مزاياه العلميّة والأدبيّة والخلقيّة والدينيّة يتّسم بهذا العنوان الجامع المنفتح على كلّ تلك العناوين والمتألّق بأنضر تأثير على المجتمع الصغير والكبير ألا وهو عالم الدين العاقل، فما حكاية هذا العالم العاقل؟
إنها تبدأ من (شقرا) في جنوب لبنان في أسرة علميّة كريمة تنتسب إلى رسول الله ويُلقّب الواحد من هؤلاء المنتسبين بالسيّد.
ثم تنطلق من النجف الأشرف وقد عاد منها بعد أن طوى مرحلة دراسة المقدّمات من نحو وصرف وبلاغة ومنطق ومرحلة دراسة فقه وأصول وتفسير وفلسفة ومرحلة الإعداد والاستعداد للاجتهاد من دورات أصوليّة وفقهيّة، وغدا عالماً مجتهداً يشار إليه بالبنان جامعاً إلى ذلك شاعريّة متدفّقة وقلماً بارعاً في التأليف، وحسبك فيما أنتجه بعد ذلك دليلاً على ما نقول: وهذه قائمة ببعض من كلّ وغيض من فيض من مؤلّفاته:
- في اللغة:
- صفوة الصفو في علم النحو
- أرجوزة في الصرف
- في الأدب:
- الرحيق المختوم في المنثور والمنظوم
- في التاريخ والتراجم:
- أعيان الشيعة في ستة وخمسين مجلداً / خطط جبل عامل
- في المنطق:
- في الأخلاق:
- في الفقه:
- في الأصول:
- في الشعر:
- الدرّ النضيد في مراثي السبط الشهيد
ويمّم السيّد الأمين شطر دمشق وهي آنذاك عاصمة بلاد الشام فإذا بالمحبين المعجبين بعلمه وأدبه وشخصيته المغناطيسية يلحّون عليه أن يبقى بينهم معلّماً مرشداً وموجّهاً مسدّداً ويستجيب السيد بعد لأي ليغدو فيهم سيّداً قائداً ومصلحاً رائداً.
ولن نستزيد من الاستدلال على وافر علمه ولكننا نطمح إلى بعض إشارات نؤيد بها تميّزه بعنوان العاقل إلى جانب عنوان العالم كما أسلفنا وبيّنا في معناهما وبركة عناقهما وعظيم تأثيره في المجتمع ونُجمل تلك الإشارات في عشر تبرّكاً بعدد الليالي العشر التي نوّه بها القرآن الكريم:(وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر 1-2).
أولاها: دراسة الواقع واستيعاب مشكلاته وتحدّياته، فقد شخّص جوانب ضعف ثلاثة في المجتمع إنقاذه والرقيّ به ألا وهي الجهل وهو آفة الآفات بما يولّده من العاهات فمع الجهل ووليديه الفقر والتعصب (لا ترى الجاهل إلا مُفرِطاً أو مُفرِّطاً) كما قال عليّ عليه السلام، ولا دواء لهذا الداء الدويّ ووليديه المشؤومين إلا بالعلم، وعلم الدنيا جنباً إلى جنب مع علم الدين، لما لعلم الدنيا من مساحة تعمّ، وما فيه من قوّة وغنى واكتساب معاش وانفتاح على الآخرين، وكان أن اتخذ قراراً جريئاً بإنشاء أول مدرسة أهليّة خاصّة للذكور في دمشق بين المسلمين بعد إذ سبق شركاؤنا المسيحيون في الوطن إلى تأسيس مدارس كالآسيّة والبطريركيّة واللاييك والعازاريّة، وقراراً أكثر جرأة بعد سنين عدّة بإنشاء أوّل مدرسة أهليّة خاصّة كذلك للإناث.
ثانيتها: من آيات عقل هذا العالم فضلاً عن دراسة الواقع وابتكار الحلول لمشكلاته تخطيط مشروع جامع لترقية المجتمع المحيط وتحويله من الضعف إلى القوة وعدم الاكتفاء بحلول جزئيّة وحتى جراحيّة لبعض أدوائه.
وتلخّص هذا المشروع في العلم دواء للجهل وآفاته، والعمل علاجاً للبطالة وما ينتج عنها من فساد وإفساد، والتوعية الدينيّة والتهذيب الخلقيّ حصنين يحفظان المجتمع من الغزو الثقافي. وما يسوقه من فكر هدّام، وتأسيس جمعيّات ترعى الصحّة وتحضّ على البِرّ وتغذّي بالثقافة البناءة.
ثالثتها: الانفتاح على مكوّنات المجتمع في الوطن مسلمين ومسيحييّن بما يُعزّز الوحدة الوطنيّة مبتدئاً بنفسه ومبادراته الشخصيّة، فقد أنشأ شبكة من العلاقات بالزيارات واللقاءات والجلسات مع مشايخ الشام وعلمائها الأجلاء (ولن أعدّد الأسماء) ومع بطاركة المسيحية وقساوستها الأعزّاء.
رابعتها: الانطلاق من أن شيعة أهل البيت في سورية جزء لا يتجزّأ من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم من التبعات والمسؤوليّات، وقد رفض بإصرار أن يكون لهؤلاء الشيعة أي تميّز أو خصوصيّة تفصلهم عن إخوتهم من المسلمين وتسِمهم بسمة الأقليّات التي يُعنى بها المستعمرون، ونستظهر على ذلك بموقف له بعد الاستقلال يوم عُرض عليه أن يكون للشيعة محكمة خاصة بهم ومجلس أعلى لشؤونهم ويكون له رئيساً فأبى وأصر على انتمائهم إلى الإطار الإسلامي الجامع.
خامستها: الموقف من القضية الوطنية، فأيّ عقل لعالم ينسلخ عن قضية الوطن ويخضع لتأثير الأجنبيّ ولا سيما المستعمر المحتل، وها هو ذا يشارك بإيجابيّة نادرة في دعم النشاط الاستقلاليّ الثائر للسورييّن على الفرنسييّن وطرح فكرة المقاطعة لشركة الكهرباء الفرنسيّة مستلهماً ذلك أو متناغماً مع مقاطعة الميرزا الشيرازيّ في إيران لشركة التبغ البريطانيّة، وتولَد في دارته فكرة الإضراب الخمسينيّ الشهير.
سادسـتها: الموقف من قضيّة الأمة المحوريّة وهي قضيّة فلسطين فقد نادى بالجهاد لنصرتها وتحريرها واستنقاذها من براثن العدو الصهيونيّ العنصريّ الاستيطانيّ، واستنهض همم المسلمين جميعاً للقيام بهذه الواجب دون إبطاء أو تقصير.
سابعتها: فضحت التيّارات الفكريّة المتلبّسة بلبوس الإسلام المصطَنعة من قِبل أعدائه المدعومة منهم سياسيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً، وتبصير المسلمين بخطرها المستفحل يوماً بعد يوم وما تبطنه وتظهره من تكفير لمن يخالفها واستباحة لدمه وماله وعرضه وهتك لحرمته ثقافيّاً وإعلاميّاً كما في كتابه (كشف الارتياب).
ثامنتها: دفاعه عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام وانتمائها وإغنائها للفقه والعقيدة والأخلاق انطلاقاً من القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة والدور المتميّز لأئمّة المدرسة الإثني عشرية والسيدة الزهراء سيدة نساء العالمين والسيدة زينب بطلة كربلاء ودفاعه عن الإمامة التي حافظت على ميراث النبوّة وبقيت مرجعيّة لا يستغني المسلمون عن عطائها، وهو دفاع يردّ عنها الشبهات ويقبس ما لها من إضاءات ويجليّ ما قدّمته للمسلمين ووحدتهم وفكرهم من جليل الخدمات بأسلوب رفيع خال من العقد والتُرّهات وبأدب جمّ مُهذّب النفحات.
تاسعتها: تنقيته لعطاء هذه المدرسة ولا سيما السيرة الكربلائية لثورة الإمام الحسين عليه السلام الذي قال عنه جدّه رسول الله:(حسينٌ مني وأنا من حسين) و(الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)،هذه الثورة الإسلامية الملهمة التي خطّت بدم الحسين وصحبه الأبرار و آله الأطهارو استشهادهم يسطرون الإسلام الناصع البهيّ، وانعقدت لدراسة تأثيرها في بقاء الإسلام ونقائه مجالس عاشورائية سنويّة لدى أتباع مدرسة أهل البيت، أجل لقد خاض معركة جريئة ضد بعض من أضاف إليها ما ليس فيها من الحكايات وشابها بشوائب من التقاليد والخرافات وحمل عليها من هجين الطقوس والعادات من خلال كتابه (التنزيه) وحكاها خالصة نقيّة بهيّة شذيّة كما في (المجالس السنيّة في مصائب العترة النبويّة).
عاشرتها: اهتمامه الكبير الدؤوب بالشباب يجالسهم ويؤانسهم ويرافقهم بل ربما سبح معهم وسابقهم ليؤثرّ فيهم تأثيره الفعّال ويأخذ بأيديهم إلى الحسَن من المقال والكريم من الفعال، وحرصه على المرأة لتكون نصف المجتمع أو أكثر وعياً وعلماً وثقافة وعطاء أمّاً وزوجة وبنتاً وأختاً، واختيار بطانة من صالحي المجتمع لينصحوه ويصارحوه، وتخريجه لبعض الأفذاذ ليتابعوا الدور وليضطلعوا بالمهمّة من بعده.
تلك شذرات وإيماءات لآيات وآيات من تجليّات ونفحات لهذا العالم العاقل وتأثيره في المجتمع، عسى أن تحفز إلى المزيد والمزيد من الدراسات، وتُلهم علماء الدين في زماننا أن يتمثلوا ويحذو حذو هذه القدوات، لينعم الوطن والأمّة والبشرية بالعميم من البركات والحمد لله ربّ العالمين.