title
صراط سيد المرسلين إلى إنسانية الدين
يتعلّم المسلم في مدرسة القرآن الكريم ـ وهو أنفس هدية إلهية أٌكرمت بها البشرية ـ أن يفتتح كل سورة من سوره التي أعجزت الخلق جميعاً:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء 88).
(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة 23) بالآية القرآنية: بسم الله الرحمن الرحيم
وليس ثمة مسلم ـ فيما أظن ـ لا يقرأ من القرآن سورة الفاتحة لدواعٍ عديدة، منها أنه سيرددها في صلاته مرات وكرات، وينضّر بها ويعطّر الأوقات.
ومنها يتعلّم أن يثني على الله تعالى بأجمل الثناءات، وأن يعترف بربوبية الله للعالمين ما ظهر منها وما بطن وما كان وما سيكون، مكرراً وصفه بالرحمن الرحيم ترسيخاً وتأكيداً لما ورد في البسملة، وليتخلق بهذا الخلق العظيم.
ثمّ أن يقرّ بمالكية الله وملكه لكل ما سواه، كما سيتجلى لهم جميعاً يوم الدين والحساب وإيتاء الكتاب يوم يُسأل الناس جميعاً: لمن الملك اليوم؟ فيجيبون جميعاً بمنتهى الخضوع والإقرار: لله الواحد القهّار.
ثمّ أن يوحّد الله ويفرده بالعبادة والاستعانة، والتوحيد أصل أصول الدين وأصل فروعه وأصل نظمه أجمع.
ثمّ أن ينطلق إلى أنفس مطلوب له من ربّه ألا وهو الهداية وهي مبذولة لكل مخلوق:(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) (طه 50).
(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ) (الروم30).
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد 10).
ولكن الهداية مراتب وهو يطمح ويتطلع إلى مرتبتها العليا، وهي أن يهديه الله الصراط المستقيم والالتزام بمنهجه القويم.
ولا يكون الصراط وهو الطريق إلى الله إلا مستقيماً لأنه من الله وإلى الله، ولكنّ وصفه بالمستقيم ليس إلا من باب التوكيد والتشديد على أبرز صفاته وأسنى مزاياه، ثم إنّ فيه كل كمالات السبل وليس فيه أيّ من نقائصها فاللائقِ بالإنسان أن يتبعه:(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام 153).
وإذا كانت كتب الله منارات لهذا الصراط تتألق بأنواره وتتفتّق عن أسراره، فإنّ رسل الله مصاديق له بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم، ومن ها هنا كان الإعلان القرآني الإيماني:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ) (البقرة 285).
وتنوه الفاتحة الكريمة بالتطابق والتوافق والتماهي بين بعدي الصراط النظري من جهة والعملي التطبيقي التجسيدي من جهة أخرى، فإذا هو صراط الذين أنعمت عليهم يا ربّ وليس صراط الإنعام فحسب، فالمفاهيم ليست أكثر من وسيلة والمصاديق هي الغاية، وتأتي آية أخرى لتفصّل ما أُجمِلَ من المخصوصين بالإنعام رموز الصراط المستقيم ورادتِه وأدلائه وقادته.
(فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) (النساء 69).
ولكنّ هذا الركب المبارك إنما يتقدمه النبيون، ويتقدّم النبيين جميعاً سيّدهم وإمامهم وأسوتهم أكمل الخلق أجمعين رسول الله محمد صلى الله عليه وآله الأطهار وصحبه الأخيار.
فهو المصداق الأمثل للصراط المستقيم والرائد الأول إليه والقائد الأفضل عليه، وصراطه هو الصراط الأكمل والأمثل، وإذا كنا قد أمرنا من لدن الله تعالى أن نتبع الصراط المستقيم فثمة آية أخرى تنبهنا إلى أننا وكلّنا ـ معشرَ المؤمنين بالله ـ يدّعي حبه لله بل نتنافس في هذا الحب، لن نوفّق إلى حبه الخاصّ لنا ـ فضلاً عن حبّه العامّ لكلّ خلقه، وإلا لما خلقهم ـ إلا أن نتّبع هذا الرسول الكريم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران 31).
فاتّباع الصراط المستقيم في أسمى صوره وأسنى تجلياته إنما هو اتّباع سيّد المرسلين.
وثمة في هذا العنوان مقولتان أولاهما الإنسانية وثانيهما الدين:
والإنسانية مرتبة يتطّلع أفراد البشر أن يتسنموا ذراها وينطلقوا إلى أقصى مداها، ليسع الواحد منهم في أفقه مجموعهم ويعمّهم بحبه وتقديره على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأشكالهم ويقدّم لهم أقصى ما يستطيع من النفع.
والدين منهج إلهي ينطلق من الإيمان بالله خالق الكون لتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية، وتوءمة الخلاص الفردي بالأمن الاجتماعي، وشفع الغنى الروحي بالتطوّر المادي، ومن الجليّ ألا تناقض بالأصالة بين المقولتين وليس ثمة مانعة جمع باصطلاح المنطقيين، بين أن نترقى في معارج الإنسانية وأن نلتزم بخطّ الدين، ولكنّ الفراق والطلاق إنما يقع بين إنسانيّ - كما يزعم - يعادي الدين، ومتديّن - كما يظنّ - ينغلق دون الإنسانية، وهي قصة تنطوي على طوفان من المصائب والأحزان، وللقصة تفصيل قدّم وجهه الأول الغرب وقدّم وجهه الثاني بعض من يُسمّون أنفسهم رجال الدين وبعض المتدينين.
فأما الوجه الأول فقد قامت في الغرب ذات يوم نزعة سُميت بالإنسانية (humanisme) أو الإنسانويّة، انحيازاً للإنسان وتقديساً له، وعداء لبعض السلطات الدينية الكنسية وممارساتها ضد العلماء باسم الدين، ونظّر لها ودعا إليها آنذاك (أوغست كونت) وذهب بها عريضة إلى افتراض أن البشرية مرت بمرحل ثلاث تلغي كل واحدة منها سابقتها وتنسخها، وهي مرحلة الدين ثم مرحلة الفلسفة ثم مرحلة العلم.
ولأنه يوقن في أعماق فطرته أن الإنسان لا يستغني عن العبادة، وهي روح الدين (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56).
فإنّه دعا إلى اعتبار النزعة الإنسانية هذه ديناً، وتخصيص معابد لها يُتعبّد فيها بدين الإنسانية، ولأنه لا يستطيع إقصاء الفلسفة عن ساحة التفكير البشري، وسم اتجاهه بعنوان (الفلسفة الوضعية) ـ وبينه وبين الفلسفة بعد ما بين المشرقين ـ، وتجاوز في إسرافه كل حدّ فادعى أن كل قضية دينية كقضية (المعاد حق) وكل قضية فلسفية كقضية (كل موجود هو زوج تركيبي من وجود وماهيّة) قضايا فارغة لا معنى لها، لأنه لا يمكن التحقق من صحّتها في المختبر. ومحور الإشكال في هذه النزعة أنها كرّست صراعاً أسطورياً وثنياً خرافيّاً بين الإنسان والله، كان له رموزه المصطنعة في التاريخ القديم لدى الغربيين كبروميثيوس الذي تمرّد على آلهة اليونان، فحكمت عليه بان يُصلب على جبل الأولمب وأن تأكل النسور قلبه، وراح أدباء الغرب يتغنون ببرومثوس هذا، وسرت هذه العدوى إلى بعض شعرائنا فأنشد قصيدة بعنوان (نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس) يقول على لسان برومثوس في مطلعها:
سأعيش رغم الدّاء والأعداء كالنّسر فوق القمّة الشمّاء
أرنو إلى الشّمس المضيئة هازئاً بالسّحب والأمطار والأنواء
لا أعرف الشكوى الذليلة والبكاء وضراعة الأطفال والضعفاء
ولكنّ هذه النزعة الإنسانية ـ بحسب تسميتها لا حقيقتها ـ لم تلبث أن وصلت على يد أحد فلاسفتها وهو نيتشه كما في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) إلى فكرة الإنسان الإله أو (الإنسان السوبرمان) وقدّست القوة والعنف والتفوّق وإلغاء الآخر الضعيف، وهي ما استلهمه هتلر في اتجاهه النازيّ ومختلف الاتجاهات الفاشية التي جرّت الويل والدمار والخراب على شعوبها، وعلى البشرية جمعاء.
وهي أيضاً ما تقوم عليه النزعة الأمريكية العنصرية بما أبادت من الهنود الحمر السكان الأصليين لما سُمّي بالأمريكتين، سواء من قاوم منهم ومن سالم، وبما استرقّت من زنوج إفريقية الأحرار بعد إذ سرقتهم من مدنهم وقراهم، وسامتهم ألوان الاضطهاد وسلّطت عليهم غلاة العنصريين منها كمنظمة الكلو كلوكس كلان (klu klux klan)، ولم ينجع إعتاقهم من عهد لنكولن، ولا زالت الإدارة الأمريكية تتعامل مع الشعوب بالمنطق نفسه، مدّعية حرصها على حقوق الإنسان وحرية الشعوب في تقرير مصيرها انطلاقاً من فلسفتها النفعية (pragmatisme)، وحسبنا ما فعلته في فيتنام وأفغانستان والعراق، وقد ورثت في ذلك كله الاستعمار القديم (الفرنسي والإنكليزي والبلجيكي والهولندي والإسباني والبرتغالي) الذي أذاق شعوب الأرض ـ ومنها شعوبنا العربية والإسلامية ـ أصناف الويلات.
ولم يقنع الاستعمار القديم ووريثه الجديد بما فعل بنا، بل احتضنا أسوأ نزعة عنصرية استعلائية إلغائية وأخطرها على البشرية وأبعدها عن الإنسانية ألا وهي النزعة الصهيونية، ولا زالا يتحالفان معها حلفاً استراتيجياً أبدياً يموّهانه ببعض من الفتات، يُقدّم لأصحاب الحق في أرضنا المقدسة في سوق المساومات، وما تفرزه من استسلام بعضنا في قالب ما يسمى بالمبادرات، وانخراط بعضنا الآخر تابعاً ذليلاً في سلك المؤامرات، وتسابق بعضنا الثالث الى التطبيع والعلاقات.
وأما الوجه الثاني للفصام النكد والطلاق البائن بين الدين والإنسانية فله مظهران:
مظهر التسلط والقهر والظلم والتجبر، يُمارس باسم الدين من بعض الحاكمين وحلفائهم من المتجلببين بعباءة الدين وهو منهم براء.
وهذا المظهر قدر مشترك تشاطر إثمه بعض من في الغرب وبعض من في الشرق باسم المسيحية تارة وباسم الإسلام تارة أخرى.
والمظهر الآخر هو مظهر الإرهاب الرافض لكل مخالف ومختلف بل لكل آخر لا يؤمن بكل تفصيل صغير يتعصب له، ويستبيح جهلاً وتطرّفاً الدماء والأعراض والأموال ولا يراعي لإنسان إلّاً ولا ذمة.
وإذا قيل الإرهاب فحدّث عن قوى عالمية تخترقه وتمتطيه، وربما قاتلت به ثم قاتلته، وأبادت به ثم أبادته.
ثم حدّث عن إرهاب الصهيونية والاستعمار، وهما أصل كل إرهاب بل هما منه بمثابة أمّه وأبيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي تؤويه.
وعوداً ـ والعود أحمد ـ إلى الدين والإنسانية فهما لا يفترقان، بل لا معنى لأحدهما بدون الآخر، فلا دين بعيداً عن الإنسانية ولا إنسانية بعيداً عن الدين، وكل منهما مقوّم للآخر.
وإذا كان الدين إلهيّ المنبع فإنه إنسانيّ المصب، ولم يجعل الله الدين إلا ليكون في خدمة الإنسان، بل ليرقى بهذا البشر الذي خلقه من طين إلى أعلى عليين، ولولا ذلك لما أَسجدَ له الملائكةَ أجمعين:(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص 71.72).
وهل ثمة تكريم لبني آدم أعظم من هذا التكريم فضلاً عن ألوان أخرى أتاحها الله لهذا المخلوق الكريم:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (الإسراء70).
وإذا كان ثمة صراع بين الإنسان وعدو إنسانيته، فإنه الصراع مع الشيطان الرجيم الذي رفض الأمر الإلهيّ بالسجود لآدم، ونصب نفسه عدواً للدين وإماماً للمستكبرين (ومن أتباعه أعداء الإنسانية من المستعمرين والصهاينة المجرمين).
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلَّا إِبْلِيسَ...) (ص 73).
وفي هذا الصراع المحتدم إلى يوم الدين، يتقدم صفوف المؤمنين الجامعين بين الإنسانية والدين سيّد المرسلين وإمام خطي الخلافة والشهادة في العالمين، ويتصدّر المواجهة والمقاومة والممانعة لإبليس وجنده وفيهم من يصارع الدين باسم الإنسانية والإنسانية باسم الدين، ومن ها هنا كان الإسلام هو الدين عند الله ودين الأنبياء أجمعين (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران 19).
وكان في آن معاً دين الإنسانية الذي يليق بها وتليق به، والصورة المتألقة المشعة لإنسانية الدين، وكان محمد الذي بشّر به موسى وعيسى والتوراة والإنجيل صاحب الصراط المستقيم إلى أفق تلك الإنسانية،ومن معالم هذا الصراط المستقيم:
أولاً: التوءمة بين العقل والوحي منبعين غنيين خصبين للمعرفة لا يتعارضان ولا يتناقضان، بل يتكاملان ويتعانقان كما يتجلّى ذلك في القرآن نور الوحي الإلهي المنزّل على قلب إمام المعراج النبوي وذروة المنهج الرسالي:(نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقرة 97).
وفي قلب هذا الرسول العظيم وهو صورة القرآن الكريم، كان ذلك العناق بين الوحي والعقل لمن جمع الوحي الأشمل إلى العقل الأكمل.
ثانياً: التوءمة بين العلم والإيمان قوتين فاعلتين مغيّرتين، لا يستقيم تحليق للإنسان إلا بجناحيهما معاً، وعلى حدّ قول الشاعر:
يطيرُ ما انسجما حتّى إذا اختلفا هوى ولم تُغن عن يمناه يسراه
ولا تجد البشرية طريقها إلى ذروتها الإنسانية إلا بهما، فالعلم من دون إيمان والإيمان دون علم مطيّتان لكل جنف وانحراف، ولكل خسران وطغيان.
وقد اجتمع العلم من لدن الله:(وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء113).
والإيمان بما أنزل من الله:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (البقرة285).
في شمس الهداية الربانية من قال عنه ربّه:(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى52).
ثالثاً: التوءمة بين الدين والأخلاق حصنين منيعين يصونان الإنسانية من الأهواء والشهوات والقوى المنحطة المدمرة من حقد وكراهية وغضب، وحسب الرسول الأكرم أنّ ربّه أثنى عليه كما لم يُثن على أحد من الرسل في قرآنه المجيد:(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم 4).
وحسبه أنّه لخص بنفسه هدف بهثته بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) أي ليصل بمكارم الأخلاق ـ وهي أسمى الأخلاق بل هي أخلاق فوق الأخلاق ـ إلى تمامها وأبعد آمادها، ومن أمثلتها:
(أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من أساء إليك)
رابعاً: تعريف المسلم تعريفاً إنسانياً يسع الناس جميعاً ويضمن لهم سلمهم وسلامتهم كما في قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه).
خامساً: الرسالة الإنقاذية للإسلام فهو يكن يوماً رسالة اعتداء على أحد من خلق الله (وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة190).
سادساً: تلخيص رسالة رسول الإسلام الكريم بتعريف وتقديم من ربّ العالمين في القرآن بأنها الرحمة بأوسع آفاقها وآمادها:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107).
ولم تكن الفتوح الإسلامية بشهادة المنصفين الغربيين قتلاً للناس وإكراهاً على الدخول في الدين، بل إزاحة للطواغيت الذين يمنعون الإنسان من حرية الإقبال على الدين والدخول في منهج الله، ولم تشهد تلك الفتوح قتلاً استئصالياً، وإنما اقتصرت على معارك في ساحات القتال وبضوابط الإسلام، وترك للناس أن يمارسوا دينهم ودنياهم في رعاية الإسلام وحماية الإسلام.
ألم يقل غوستاف لوبون (ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب)، نعم إنهم العرب الذين صنعهم الإسلام وصاغهم الإسلام وصبغهم بصبغته الإلهية، فإذا هم رواد في الإنسانية كما هم رواد في الدين وقادة ركب المؤمنين، على أنّ أكثر من أقبل على الإسلام في جزيرة العرب في زمن الرسول إنما دخلوا أفواجاً بعد فتح مكة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (النصر 1.2.3).
وأكثر من دخل في الإسلام من الشعوب إنما دخل سلماً واستجابة لدعوة الدعاة في وسط إفريقية وغربها وجنوبها وفي شرق آسية وأقاصيها، وما كانت تلك الاستجابة الواسعة إلا تفاعلاً مع النموذج الإنساني الذي قدمه الإسلام، ولا زال هذا الإسلام العظيم بالإنسانية يستقطب المزيد والمزيد من البشر في مختلف أنحاء الأرض وحتى في أوربة، فكان أن ابتكرت خطة لتبشيع الإسلام وتشويه الإسلام وإظهاره في قالب وحشي إرهابيّ ليزورّ الناس عنه، ومن جزئيات هذه الخطة ما يساء به إلى الرسول الأكرم المثل الأعلى للإنسانية.
وفي الساحة الإسلامية أريد لنموذجين فقط أن يسودا: أولهما نموذج النظم المستترة برداء الإسلام التابعة للغرب المنفّذة لخططه في الكيد للإسلام والانحياز للصهيونية ومسالمتها وتشديد الأواصر معها، وثانيهما نموذج من يقتلون المسلمين وغير المسلمين باسم الإسلام ويصفّى بعضهم من تلك النظم وأسيادها ويعتقل بعضهم ليساوموا على تنفيذ أغراض في بلدان عربية وإسلامية ضدّ فئات وطوائف ومذاهب فيها، وإثارة الفتن وإذكاء نار التعصب والقتل على الهويّة.
وأما النموذج الرشيد المحارب من قبل الجميع مستكبرين وأشياعهم وأذيالهم، فهو نموذج الإسلام الرافض لكل تبعية، الذائد عن حرمة الأرض والعرض والقضية الفلسطينية المحورية، المتبني للمقاومة والتحرير، والمنفتح على كل التيارات القومية والوطنية في خندق القضية الواحدة.
وما المعركة القائمة اليوم إلا محاولة لتغييب الإسلام المنقذ للبشرية عن الساح، بعد أن كانت تتطلع إليه القلوب والعقول والأرواح، وليطمئنّ الغرب الاستعماري ولا سيما الأمريكيّ وحليفه الصهيونيّ ويشعر أنه ارتاح، بعد أن نقل المعركة إلى أرضنا وبأموالنا وبتسليحنا وبعد أن جعل بأسنا بيننا، وقلب المعادلة القرآنية على أرض الواقع من:(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح 29)، إلى ضدّها أي رحماء على الكفّار أشداء بينهم.
ولكننا نتطلع من خلال العودة إلى القرآن الكريم والإسلام العظيم، ومن خلال اتّباع صراط سيد المرسلين إلى إنسانية الدين، أن نعود الأمة الواحدة الرائدة الشاهدة (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة 143).
وأن نخرج بالبشرية كلها من الإنسانية المزيفة المكذوبة المصطنعة التي قدمها المستكبرون وأتباعهم وأشياعهم، وأن نُعدّ العالم لاستقبال الموعود من سلالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يؤيده السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ويلتفّ من حوله كل المؤمنين بالدين والقيم وإنسانية الدين بتوفيق من رب العالمين (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم 47).