title
دور القيم الإنسانية الدينية في بناء المجتمع
علام يبنى المجتمع؟ وما القيم؟ وكيف تطور معناها؟ وما فلسفتها؟ وما مصادرها؟ وهل تقسم إلى إنسانية ودينية؟ وما الصلة بين القسمين؟ وما دورها في بناء المجتمع؟
تلك الأسئلة وأسئلة كثيرة أخرى تطرح بين عنوان البحث وتشغل بال الإنسان الجاد والمؤمن الحقيقي والمواطن الصالح في كل زمان وتبدو أبعد أهمية وأعظم شأناً في زماننا الحاضر لما فيه من خصوصيات ولما أثير فيه من صراعات ونتيجة لما يحيط بالوطن والأمة والدين والإنسانية من أخطار وما يواجهها جميعا من تحديات.
مقدمة:
معرفة الذات مقدمة لمعرفة الكمال المطلق ويقول الإمام علي (ع) ((من عرف نفسه فقد عرف ربه)) وثمة ركائز أربع لا يقوم بنيان الفرد والمجتمع بعيداً عنها بل لعلها الركائز الكبرى على هذا الصعيد ألا وهي:
- المعرفة: وما أصدق قول علي(ع):(يا كميل: ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة) فالمعرفة أساس لكل حركة يقوم بها الإنسان الفرد والإنسان المجتمع ولا سيما المعرفة اليقينية البرهانية.
- العاطفة: ومن عناق العقل والقلب تتوهج العاطفة لترتقي في معارجها إلى حيث يقول البيان الإلهي المعجز ‹‹وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ۗ›› (البقرة 165).
- القيم: ومن دونها لا يستقيم بنيان فردي ولا اجتماعي ولا يقف على قدميه ثابتاً راسخاً، بل عوامل الهدم أخطر عليه ويتغلب هادموه على بناته فلا يتحقق له التمام:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
- العمل: ولا يجزي إيمان بأمر، مالم يشفع بعمل نافع لذا كان الاستثناء القرآني: ‹‹وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ*›› (العصر).
يتبين مما سبق أن بناء الذات وكذلك بناء المجتمع إنما يكون بتأسيس معرفي وإغناء عاطفي وتفعيل عملي لكن بضبط قيمي.
- القيمة(لغة): هي من الفعل قام وأصله قَوَم ثم اُعِلّت الواو بعد الفتح ألفاً، ووزنها: فِعلة.
قَوَم: قِوْمة واُعلّت الواو الساكنة فصارت بعد الكسر ياء قِومة قيمة.
- القيمة(اصطلاحاً):
• سمة شيء مرغوب فيه (لا لا ند)
ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته لاعتبارات اقتصادية أو سيكولوجية أو اجتماعية أو أخلاقية أو جمالية (صليبا).
- القيمة بين الذاتية والموضوعية:
القيمة من الناحية الذاتية: الصفة التي تجعل الشيء مطلوباً ومرغوباً فيه عند شخص ما أو جماعة معينة.
القيمة من الناحية الموضوعية: ما يتميز به الشيء من صفات تجعله مستحقاً للتقدير كثيراً أو قليلاً.
فإن كان مستحقاً للتقدير بذاته لا لغرض كالحق والخير والجمال كانت قيمته مطلقة ولا تكتسب القيمة بعدها الواقعي البنائي مالم نأخذ بالجانب الموضوعي منها وهو الأبرز والأهم.
- تطور مصطلح القيمة:
1- اقتصادياً: استعمل بمعنى قيمة السلعة كما عند(ريكاردو)و (وآدم سميث) وتعني:
• استعمالياً: ما للشيء من نفع حقيقي كالماء والهواء والغذاء.
• تبادلياً: ما للشيء في زمان معين ومجتمع معين من ثمن اعتباري يسمح بتداوله ويرجع إلى ندرته بغض النظر عن نفعه كالماس واللؤلؤ.
2- معنوياً (في علم الأخلاق):
يطلق هذا اللفظ (القيمة) على ما يدل عليه لفظ الخير، بحيث تكون قيمة الفعل تابعة لما يتضمنه من خيرية.
على حين يقصر بعضهم القيمة على العمل نفسه، ويرى أن العمل أساس القيمة (كما عند ماركس).
ويؤكد أخلاقيون أن قيمة العمل لا تنفصل عن النية وراءه وسيتضح في ما يأتي من البحث أن التقوى إسلامياً معيار قبول العمل لدى الله تعالى (إنما يتقبّل الله من المتقين) و(لا يقلّ عمل مع التقوى وكيف يقلّ ما يُتقبل كما يقول علي (ع)، بل إن قيمة كل إنسان بمقدار ما يحسن(قيمة كل امرئ ما يحسنه)و ينتهي بنا ما سبق قوله إلى حقيقة أن القيمة تكون بين مقولتين:
• مقولة الكم: فتدل على ثمن الشيء، أي كمية المال الذي ينبغي إنفاقه للحصول عليه، فنقول: قيمة السلعة، أو قل العمل المنفق لإنجازه أو المدّخر فيه فنقول: قيمة العمل.
• مقولة الكيف: فتدل على نسبة ذلك الشيء إلى الصورة الغائبة لجنسه فنقول: قيمة الصداقة ملاحظين مستويات الصداقة ودورها وألوانها والمقايسة بينها، ونقول: قيمة العلم بحسب نوع العلم ومداه وبراعة صاحبه فيه، وتفوقه على أقرانه.
- فلسفة القيم:
هي شعبة من الفلسفة تفسر قيم الأشياء وتحللها، وتبيّن أنواعها وأصولها بأحد تفسيرين:
1- مثالي: بنسبتها إلى الصور الغائية المرتسمة في الذهن.
2- وجودي: تعليلاً لها بأسباب طبيعية أو نفسية أو اجتماعية.
وثمة سؤال يطرح هاهنا:
هل وجوب الشيء سبب وجوده: بحسب نظرية القيم؟
أو هل وجود الشيء سبب قيمته: بحسب فلسفة الوجود؟
- نظرية القيم: تقوم على البحث في طبيعة القيم، وأصنافها، ومعاييرها
1- هي باب من أبواب الفلسفة العامة ترتبط بالمنطق، وعلم الأخلاق، وفلسفة الجمال، والإلهيات.
2- ولها معنيان:
• النظر في إحدى القيم كالجمال مثلاً.
• النظر الاقتصادي في معنى القيمة على الإطلاق.
- تعريفات القيم من خلال مؤشر الفعل والأنشطة السلوكية:
تقوم هذه التعريفات على فكرة أن المؤشر الرئيس للقيم هو السلوك، فالقيم التي يتبناها الأفراد عوامل محددة لسلوكهم:
ومن أمثلتها تعريف زرتشر:
القيم: التزام عميق من شأنه أن يؤثر على الاختيارات بين بدائل الفعل، فاحتضان قيم معنية بواسطة الأفراد إنما يعني بالنسبة لهم أو للآخرين (توقعاً) ممارسة لأنشطة سلوكية معينة تتسق مع ما لديهم من قيم.
- تعريفات القيم من خلال مؤشر الاهتمامات والاتجاهات:
تقوم هذه التعريفات على فكرة أن المؤشر الرئيس للقيم هو الاتجاهات، فالقيم عند الأفراد إنما هي اهتمامات أو اتجاهات حيال أشياء أو مواقف أو أشخاص:
ومن أمثلتها: تعريف براي روك.
القيم: (عند بعض الأفراد) تعني لديهم اتجاهات إيجابية حيال بعض جوانب الحياة وأخرى سلبية تجاه بعضها الأخر، وبمعنى أن الأفراد بحكم ما لديهم من قيم مهيؤون لاختيارات معينة دون غيرهم من البدائل.
- تعريفات القيم من خلال مؤشري الاتجاهات والأنشطة السلوكية:
تقوم فكرة هذه التعريفات على الجمع بين الاتجاهات والسلوك باعتبارها مؤشرات للقيم.
ومن ممثلي هذا الجمع بين المؤشرين رايش، ويرى أن الاتجاهات والفعل نتاج توجهات القيم.
- مصادر القيم: لدى السؤال عن المصادر التي تنبع منها القيم في حياة الإنسان نجد إجابات متعددة فبعضهم يرجعها إلى الدين وآخرون إلى العقل وفريق ثالث إلى الفطرة ورابع إلى المجتمع وخامس إلى الرغبات الشخصية.
- تصنيفات القيم: يصنفها سبرينجر بحسب أبعاد متنوعة كما يأتي:
1- تصنيف القيم بحسب بعد المحتوى: إلى قيم نظرية وسياسية واقتصادية و اجتماعية وجمالية ودينية.
2- تصنيف القيم بحسب بعد المقصد إلى:
• قيم وسيلية: ينظر إليها الفرد على أنها وسيلة لغاية معينة كالعلم.
• قيم غائية: ينظر إليها الفرد على أنها غاية بذاتها كالحق.
3- تصنيف القيم بحسب بعد الشدة إلى:
• ملزمة(امرة): يرى المجتمع ضرورة تنفيذها بالقوة كالعدالة.
• تفضيلية: يشجع المجتمع الأفراد على تنفيذها كالتعاون.
• مثالية: يحس الفرد بصعوبة تحقيقها كالإخلاص.
4- تصنيف القيم بحسب وضوحها إلى:
• ظاهرة: يعبر عنها الفرد باللفظ صراحة كالحب.
• ضمنية: تستخلص من سلوك الفرد دون أن يعبر عنها كالإيثار.
5- تصنيف القيم بحسب بعدها التاريخي إلى:
• قيم تقليدية أصلية: كالكرم.
• قيم عصرية طارئة: كالاهتمام بالأتمتة.
6- تصنيف القيم بحسب دوامها واستمرارها إلى:
• قيم دائمة: كالحرص على العادات.
• قيم عارضة: كالاهتمام بالأزياء المعينة.
7- تصنيف القيم بحسب بعد العمومية إلى:
• قيم عامة: مثل الاعتقاد بأهمية الحفاظ على العرض.
• قيم خاصة: مثل تحريم بعض الأعمال على الإناث.
يصنفها عبد اللطيف حمزة في كتابه (الأصول الاجتماعية للتربية) جدولياً كما يأتي.
المستوى النوع مفردات تظهر في السلوك
1-المستوى الفردي عقلية فكرية الذكاء-الموضوعية
نفسية وجدانية القلق- الحب
أخلاقية ودينية التسامح-الإجلال
2-المستوى الاجتماعي سياسية الوطنية-الالتزام بالقانون
اقتصادية النجاح-الإنتاجية
ثقافية فكرية التطور-المستقبلية
3-المستوى الإنساني دينية أخلاقية
سياسية المقدسات-الشعائر والعبادات
العالمية-السلام
اقتصادية المنفعة
ثقافية حضارية العلاقة مع الأخرين
- الحاجات والقيم:
يربط بعض التربويين بين الحاجات والقيم باعتبار الأخيرة إشباعاً لحاجات أصلية لدى الإنسان ومن نماذج هذا الربط:
1. الحاجات المعدّلة: لكلايتون:
الحاجة إلى البقاء- الحاجة إلى الانتماء- الحاجة إلى النمو والتقدم.
2. هرم ماسلو لحاجات الفرد ونطرّزه بآيات وأحاديث ذات دلالة
الحاجات الجمالية والذوقية ‹‹...وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...›› (البقرة83)
حاجات تحقيق الذات ‹‹...هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ...›› (الزمر 9)
حاجات الحب والانتماء ‹‹أحِبّ لأخيك ما تحب لنفسك››
حاجات الأمن والسلامة ‹‹...وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ›› (قريش 4)
الحاجات الجسمية ‹‹الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ... ›› (قريش 4)
- القيم والتعلم: ولا بد من استشراف نتائج التعليم لدى الإنسان ومن خلال المجتمع ومن أبرزها اكتساب المعاني واللغة واكتساب المهارات وكذلك بنحو خاص اكتساب الاتجاهات والقيم.
قسمة القيم إلى إنسانية ودينية:
1. إنسانية: عند الإنسان في كل زمان ومكان بغض النظر عن منشئها كالحرية.
2. دينية: تنبع من الدين عقيدة وشريعة ولولاه ما كانت كالتقوى.
3. مشتركة: هي عند الإنسان، ويعلي الدين من شأنها كالعدالة.
- صلة ما بين القيم الإنسانية والدينية:
1. أما في المشتركة (كالعدالة) فالدين داعم لا نظير له بل يرقى بها إلى أسمى آفاقها:
‹‹لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ›› (الحديد 25)
‹‹إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ›› (النحل 90)
‹‹... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ...›› (المائدة 8)
‹‹... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ...›› (الأنعام 152)
‹‹وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ... ›› (النساء 58)
2. وأما في الإنسانية (كالحرية) فالدين يتبناها لأسباب:
- إن الدين مع الفطرة الإنسانية والحرية من الفطرة: ‹‹فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ›› (الروم 30)
- والدين مع العقل والعقل يناصر الحرية (أول ما خلق الله العقل).
3. وأما في الدينية: (كالتقوى)
- فالمقصود دائماً وأبداً مصلحة الإنسان (الفرد والمجتمع) لأن الدين إلهي المنبع ولكنه إنساني المصب.
- ويلاحظ أن التقوى ها هنا لا تعني الالتزام بالأوامر الدينية الشرعية والنواهي الدينية الشرعية طاعة واتباعاً فحسب، بل تعني فيما تعنيه تقوى الله في نفوس الناس وأموالهم وأعراضهم ففي تعريف المؤمن: إنه من يأمن جاره بوائقه.
وفي تعريف المسلم: إنه من سلم الناس من لسانه ويده.
بل إن التقوى تشمل كل جوانب حياة الإنسان، فثمة تقوى سياسية وتقوى
اقتصادية وتقوى اجتماعية.....
- أضداد القيم: ما لا يجتمع مع القيم بحال، وما ينبغي أن يحذر الإنسان من أن يتبناه عملاً واتجاهاً لأنه مرفوض إنسانياً ومرفوض دينياّ وها هي ذي أمثلته:
1. الاستعباد مقابل الحرية: وقد نهى الإمام علي (ع) عن الاتصاف بقابليته (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً).
فضلاً عن التلبس بفاعليته كما في قول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً)
2. الظلم مقابل العدل: وقد بين الإسلام في القرآن المجيد مصير من يتلبس به ‹‹...وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا›› (طه 111)
ودعا الناس إلى رفض الانظلام أي عدم القبول بالظلم، لأن القبول بالظلم والخنوع له ذل، وكما قال الحسين (ع):
لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد
3. الفجور مقابل التقوى: وقد حذر الله منه بعد إذ ألهمت النفس معرفته ‹‹وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا*كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا›› (الشمس)
- بناء الإنسان وبناء المجتمع:
ثمة علاقة جدلية بين بناء الإنسان وبناء المجتمع، فحين تبني الإنسان باعتباره الخلية المكونة للمجتمع فإنك تبني المجتمع بمستوى ما وعلى نحو ما، وحين تبني المجتمع باعتباره العنوان الجامع للأفراد، فإن ذلك يوفر البيئة الحاضنة المؤثرة في بناء الإنسان، كل ذلك إنما يتم على صعيد الركائز الأربع المذكورة سابقاً ألا وهي المعرفة والعاطفة والقيم والعمل.
- دور القيم في بناء المجتمع:
وعلى أساس كل ما تبين من أبعاد القيم تعريفاً وتصنيفاً ومصادر وفلسفة ونظرية ووفاء بحاجات الإنسان فإن لها دوراً في بناء المجتمع في أطره المختلفة المتفاوتة سعة وضيقاً ومن نماذج هذا الدور ما يأتي:
1. على صعيد الأسرة:
يطرح القرآن عدداً من القيم بعضها غائي كالسكينة وبعضها بنائي كالمودة والرحمة كما في قوله تعالى: ‹‹وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ›› (الروم 21).
2. على صعيد الصداقات:
يقدم الإسلام قيمة مهمة في صفات الصديق المختار وهي الصدق لا التصديق (صديقك من صدقك لا من صدّقك).
ويستلهم الشاعر العربي قيم الصداقة فيعبر عنها أجمل تعبير:
إن أخاك الصدق من يمشي معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت شمل نفسه ليجمعك
3. على صعيد المدرسة:
تجتمع ألوان من قيم العلاقة بين المدرس والتلاميذ في كتاب قيم للشهيد الثاني بعنوان (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد).
4. على صعيد الوطن:
لن تجد هاهنا أقدم ولا أقوم من الوثيقة التي أملاها رسول الله (ص) حين قدم المدينة المنورة، وجعلها الإطار الجامع لأهل يثرب والمهاجرين إليهم واليهود المحيطين بهم، بحيث كانت (وثيقة لقيم المواطنة).
5. على صعيد الحكم والإرادة:
وليس ثمة أنقى وأرقى من عهد الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر، ونجد نصه في نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين، وفيه جماع قيم الحكم والإدارة، ومن اللافت للنظر أن الأمم المتحدة تبنته وثيقة رسمية على هذا الصعيد.
6. على صعيد الأمة:
يرسم القرآن الكريم للأمة الإسلامية المنحى القيمي لها عموماً في قوله تعالى:
‹‹كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ... ›› (آل عمران 110)
فها هنا قيم ثلاث هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المعروف ما عرف حسنه من الشرع أو العقل والمنكر ما أنكره وقبّحه العقل أو الشرع)، باعتبارهما المضمون العملي والترجمة التنفيذية لقيمة كبرى هي الإيمان بالله تعالى.
وحين تتخلى الأمة عن دورها فتفقد أفضليتها لا تنتهي القصة فصولاً، بل يندب القرآن أمة من قلب الأمة باعتبارها الذخيرة القيمية والفئة الطليعية لتقوم بالدور، كما في قوله تعالى:
‹‹وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ و َأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ›› (آل عمران 104).
7. على صعيد البشرية كلها:
من أعظم القيم التي جاء بها الدين لخدمة البشرية كلها والارتقاء بها إلى أسمى معارج الإنسانية:
• قيمة التعارف: وقد جاء في قوله تعالى: ‹‹يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ›› (الحجرات 13).
• قيمة التعاون: وقد حرص الإسلام على تأطيرها إيجابياً ورفض توظيفها سلبياً كما في قوله تعالى: ‹‹...وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ....›› (المائدة 2).
ففتح باب التعاون بين المسلمين مع سواهم لكل ما فيه التوسع في الخير، على الصعيد العلمي والثقافي والاقتصادي السياسي والحضاري، وكذلك لكل ما فيه حفظ المسلمين والبشر أجمعين على الصعد كلها مالاً وعرضاً ودماءً وبلداناً ومؤسسات، ونبذ التعاون على إهدار القيم الخلقية وتجاوز الضوابط القانونية والعدوان على الدول والشعوب.
* قيمة التواصي بالحق والتواصي بالصبر وذلك في قوله تعالى: ‹‹وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر›› (العصر 3).
فنادى بها للمسلمين وللناس، ودعاهم إلى أن يوصي بعضهم بعضاً بالحق في قضايا الإنسان والأوطان والبيئة، والصبر في معالجة المشكلات والاختلافات وإطفاء النزاعات.
8. فيما يتوهم فيه تجاوز القيم والإعراض عنها:
• في الخصومة:
يتوهم بعضهم أن للقيم مكانها ودورها بين الناس ما دامت الصداقة قائمة والعلاقات وشيجة، حتى اذا انصرم عهدها وتقطعت حبالها لم يعد ثمة إلزام والتزام بالقيم، والحق أن امتحان الإنسان هنا يكون أصعب، لكنه لا يعفى من التمسك بأهداب القيم، ولن تجد نموذجاً في رجال الإسلام لنبل الخصومة كعلي(ع)، فهو مع تمسكه بالحق ومع معرفته بمنزلته الرفيعة وموقعه المتميز آثر مصلحة الأمة ووحدتها وبقاء الدين، وحين وُسِّد إليه الحكم بإقبال شعبي منقطع النظير، ثم أثيرت في وجهه حروب، عامل كل من حاربه بأرقى ما تنادي به قيم الحق والعدالة والتسامح ولم يكفِّر من كفّره، بل قال قولته الرائعة (إخواننا بغوا علينا).
• في الثورة:
ربما ذهب بعضهم إلى أن الثورة رفض وتمرد، وهي بالتالي لا تفسح مجالاً للقيم والالتزام بها، ولكننا ابتداءً من منشور الثورة الحسينية الإسلامية لسيد الشهداء وإمام الثائرين الحسين (ع) ، الحافل بالقيم( إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي، خرجت آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...) إلى شعارات الثورة (لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد) و(هيهات منا الذلة)، وفي المواقف الإعلامية الشامخة للسيدة زينب (ع) في قصور الطواغيت كما في هذا الحوار بينها وبين عبيد الله بن زياد:
يقول: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم.
تردّ: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه صلى الله عليه وآله، إنما يُفتضح الفاسق ويُكذب الفاجر وهو غيرنا.
- مشكلات قيمية معاصرة:
لعل عصراً لم يشهد مشكلات قيمية كعصرنا الحاضر بفعل عوامل متعددة من أبرزها الطغيان السياسي والقوة العسكرية المدمرة وسطوة المال و الإعلام، وقد تمحض ذلك ألواناً من الصراعات ضاعت فيها المعايير وغُيّبت فيها الضوابط، ومن أسوأ نماذج ذلك:
1. ادعاء القيم: فقد كان متوقعاً أن نرى صراعاً مكشوفاً بين أصحاب القيم والمجاهرين بإنكار القيم، لكن الفريق الثاني عمد إلى اتقان لعبة أكثر خطراً هي ادعاء القيم وتجريد أصحاب القيم من امتيازهم، واقرأ ما يدبر لتشويه صورة حزب الله المقاوم ووسمه بأنه منظمة إرهابية على لسان الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامية والاتحاد البرلماني العربي بفعل دولة مهيمنة هي أعدى أعداء القيم وأسوأ مدع لها.
2. احتكار القيم: هكذا يتقدم أعداء القيم من المستكبرين والمستعمرين منذ عهد بوش الابن الذي ابتدع إدانة كل من يعترض سبيل المصالح الاقتصادية المهيمنة ونبذهم جميعاً بأنهم حلف الشر، بل استحضر مصطلحاً لم نبرأ من عقابيله إلا منذ زمن فقال: (إننا نشن حرباً صليبية).
- أسوأ أعداء القيم الإنسانية والدينية:
لكننا ابتلينا في هذا الزمن الأخير بصنفين من أعداء القيم الإنسانية والدينية:
1. أعداء القيم الإنسانية باسم الإنسانية وتحت لوائها وبرفع شعاراتها واحتكار تحقيق أهدافها.
2. أعداء القيم الدينية باسم الدين وتحت لوائه وبرفع شعاراته واحتكار تحقيق أهدافها.
- سبيل بناء المجتمع على اساس القيم الدينية والإنسانية:
1. لا يستقيم بناء المجتمع إن لم نستكمل دعائمه الأربع التي ذكرت في مقدمة البحث متضافرة متآزرة، يرصّ بعضها بعضاً هي المعرفة والعاطفة والقيم والعمل.
2. لا يصل بناء المجتمع إلى أهدافه المرجوة، ما لم نأخذ بالقيم الدينية والإنسانية معاً مدركين كمال الالتئام والانسجام بينها، رافضين أي طرح لتعارضها وتأريث الشقاق و الصراع بينها.
- حلف الدفاع عن القيم الإنسانية والدينية:
1. لن تسلم القيم الدينية والإنسانية ويسلم معها الإنسان الفرد والمجتمع، ما لم ينشط محور الدفاع عن القيم ويتصدى مقاوماً بقوة وثبات وتضحية لأعداء القيم الإنسانية باسم الإنسانية وأعداء القيم الدينية باسم الدين.
2. ولا بد في هذه المواجهة الكبرى من الاستنفار والحشد والدعم من قبل كل أنصار القيم، مهما تنوعت اتجاهاتهم الدينية والمذهبية والسياسية والجغرافية والقومية والعرقية، وأن تُنسج الصلات وتُوثّق العلاقات وتُحكَم الوشائج بينهم، وأن تُنَسق جبهتهم ثقافياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً وعسى أن يحقق الله لهم النصر ‹‹... وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ›› (آل عمران 126).
والحمد لله رب العالمين.