العدالة السياسية عند الإمام علي عليه السلام

مقالات

2020/11/30

title
                                                                                            العدالة السياسية عند الإمام علي عليه السلام

إذا كان المسلمون قد ذهبوا طرائق قدداً في تقويم الرجال الذين صنعهم الإسلام ومدى تجسيدهم لقيم الإسلام وأبعاده فإنهم لن يختلفوا حول نقطة وحيدة على الأقل، وهي أن علياًعليه السلام، كان فارس السيف والقلم المقدّم، وأمير من تكلم "وإنا لأمراء الكلام وفينا تنشبت عروقه وعلينا تهدلت غصونه".
وأن ما حفظ لنا من كلامه ـ على الرغم من الاختلاف حول ما ثبت إسناده إليه ـ منهل ثر ومنبع خصب لموقف الإسلام من مختلف قضايا الإنسان والإنسانية.
ومن أبرز قيم الإنسانية تجسداً في مسيرة هذا الإمام العظيم القولية والفعلية ومن أجلاها وأسناها قيمة العدالة.
ومن أبعاد هذه القيمة العلاقة التي جلاّها ورسم آفاقها بين الحكم والشعب، بين الراعي والرعية مما يصلح أن يكون أنموذجاً ومثلاً أعلى للمرتادين وطلاب الحق والحقيقة.

أولاً: منابع رؤية الإمام علي عليه السلام لهذه العلاقة:
يمتح علي عليه السلام في رؤيته للعلاقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم أو قل الراعي والرعية من منابع متعددة تتلاقى لتعطي لهذه الرؤية آماداً، وتعد صاحبها لذروة ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير.
وأول تلك المنابع حكمته المتبصرة وفهمه العميق للصفات الإلهية وعلاقته العرفانية والوجودية بالله تعالى بحيث يقول الرسول ص "يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت"، وقد أشعَّت صفات الله عز وجل ولا سيما العدل في كلامه بألوان متألقة وأشكال متوهجة.
و من هذا الفيض المشع قوله: "بل نفذهم علمه وأحصاهم عدده ووسعهم عدله وغمرهم فضله".
فعدل الله يسع جميع خلق الله، ولا يضيق عنهم على كثرهم، وهذا العدل الواسع هو الذي يريد عليعليه السلام أن يجعله مثلاً أعلى للتطبيق العلوي: "فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فإن الجور عليه أضيق".
وقوله: "الذي عَظُمَ حلمُه فعفا، وعدل في كل ما قضى، وعلم بما يمضي وما مضى".
فعدل الله تعالى في قضائه وتشريعه يناغم عدله التكويني. وقوله: "وأشهد أنه عدْل عَدَل وحكم فصل".
فعدل الله سبحانه في صفاته يسري في كل فعل من أفعاله ويركز عليعليه السلام على صفة العدل الإلهية التي تنفي عن العباد كل ظلم وتتجلى في كل قضاء وحكم "الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وعدل عليهم في حكمه".
وثاني هذه المنابع القرآن الكريم، وقد عجنت روح علي بالقرآن بعد إذ كان أول من عايش نزول الخطاب الإلهي على رسول الله ص.
"ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ص فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة فقال: هذا الشيطان قد أيِسَ من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير".
ومن القرآن الكريم نهل علي عليه السلام روح العدل فسرت في وجوده ولم تفارقه لحظة من لحظات حياته الخيرة الكريمة فالقسط في الكون يقوم بالله سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) والقسط هدف الرسالات جميعاً (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ))الحديد25:.
والله يأمر نبيه وسيد رسله محمد ص بالقسط (( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42( ويؤكد القرآن ذلك على لسان حبيبه المصطفى ص))وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)) الشورى15.
ويؤمر الناس جميعاً بالعدل في الحكم: ((وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)) النساء58.
وينّوه القرآن بالأمة العادلة من خلقه في خلقه ولعلهم الأئمةعليه السلام ))وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)) الأعراف181، ويدعى الناس إلى العدل في القول بلغة الفعل)) وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ(( الأنعام152.
وحتى مع من تبغض لأن ذلك أقرب للتقوى: ((وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى(( المائدة8.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ(( النساء35.
ويؤكد على أمر الله بالعدل ضمن أوامر متلازمة متضافرة: ))إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) النحل90.
وثالث هذه المنابع: رسول الله ص الذي حضن علياً عليه السلام وربّاه، وخصه بما لم يَخُصَّ به أحداً سواه، وقد حدثنا عليّ عليه السلام عن هذه الخصوصية: "وقد علمتم موضعي من رسول الله ص بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عَرْفَه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل"....خ235.
وبهذه الخصوصية التربوية أتيح لعلي ما لم يتح لغيره من الاقتداء برسول الله ص: "يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به".
ومن هنا نهل علي عليه السلام من عدل رسول الله ص كما نهل من سائر أخلاقه وكما عبّ من علمه وفهمه وحكمته وسائر خصائصه وكمالاته الوجودية ولنستمع إلى علي عليه السلام يتغنى برسول الله وسيد خلق الله جميعاً "فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوءه، وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل".
ورابع هذه المنابع (عليٌّ) نفسه بكل خصوصياته وهو إمام الأئمة ونخبة النخبة في أمة رسول الله ص وباختياره الأسمى وحساسيته للعدل بين الناس ورفضه للظلم وشعوره الفائق بالمسؤولية أمام الله تعالى.
" وَاللهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ (1) مُسَهَّداً (2)، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا (3)، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى (4) حُلُولُهَا؟! ".
" وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ (23) شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا (24)، مَا لِعَلِيّ وَلِنَعِيمٍ
يَفْنَى، و لَذَّةٍ لاَ تَبْقَى! نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ. ".

معالم رؤية الإمام علي عليه السلام لهذه العلاقة:
الفرق بين الإمامة والحكم:
حين مارس ابن العاص خديعته ورفعت المصاحف على الرماح استجاب الخوارج من جند علي عليه السلام لها وكان منطقهم آنذاك (إن القوم يدعوننا إلى كتاب الله).
ولم ينفع منطق علي عليه السلام في محاوراته المتعددة معهم في معالجة قصور نظرهم وسطحية تفكيرهم وضيق أفقهم.
ولقد صور علي عليه السلام أمره وأمرهم في هذه المعضلة بقوله: "أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت أنا و إياكم كما قال أخو هوازن: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى * فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغدو" أكد عليه السلام أن إباءهم ومخالفتهم هي التي اضطرته إلى ما لم يكن ليقبله ويرضاه: "حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ وَلَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ بُجْراً وَلَا أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً ."خ36.
وبعد إذ تكشّفت هذه المعضلة عن النتائج التي حذّر منها عليعليه السلام سلفاً، أثار هؤلاء الخوارج شبهة كبيرة في الفكر السياسي – تعاقب عليها الفوضويون ورافضوا الحكومة والدولة على مر التاريخ، وبشّر بها الماركسيون في شيوعيتهم المزعومة التي لم تتحقق قط ولن تتحقق أبداً وهي إلغاء الدولة – وذلك حين رفعوا شعار (لا حكم إلا لله) وقالوها بصيغة أخرى (الحكم لله لا لك يا علي).
و ردّ عليهم عليه السلام موضحاً الفرق بين الحكم والإمرة: " كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ إِلَّا لِلَّهِ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ وَيُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيْ‏ءُ وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ ".
فالحكم ابتداءً مصدراً ومرجعيةً ومنطلقاً هو لله ولكن الحكم انتهاء إمرةٍ وتنفيذاً وإجراء وفصلاً بين الناس لا بد له من إنسان.
وقد خلط الناس بين هذا المعنى الأخير للحكم في إطاره المحدود وبين الإمامة في أفقها الرحب فقصروها عليه، وهو بعد إجرائي تنفيذي لها، وظنوا أن إمامة الأئمة لا تتعداه فضيّقوا واسعاً، ويمكننا أن نبيّن أهم الفروق بين الإمامة والحكم وفق التصنيف التالي:
1- الإمامة قيادة على طريق الهداية للبشرية ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)) السجدة24، وبالمعنى الأشمل للهداية ((إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)) الرعد7، على حين أن الحكم هو أداة ووسيلة لها وبعد من أبعادها للسير بالناس في طريق الهداية السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
2- الإمامة منصب إلهي وجعل رباني ((قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)) البقرة124، ولا يتأثر بالتالي بإقبال الناس أو إعراضهم، على حين أن الحكم بمعنى الإمرة والتنفيذ والممارسة والإجراء منصب تعاقدي له صلة بقبول الناس وإقبالهم وبيعتهم.
3- ليس للإمام أن يتخلى عن إمامته وتحمّل أعبائها ولو لم يجد ناصراً واحداً على حين أن له أن يتخلى عن الحكم وليس له أن يسعى إليه إذا افتقد الأعوان والأنصار.
" لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ".
4- لا أمة بلا إمامة ولكن الإمام قد يغدو وحده أمة ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)) النحل120، على حين أن لا حكم إلا بالتفاف الناس حول الحاكم ولا يمكن للإمام أن يحكم وحده.
5- لا يدور الأمر بحال بين الإمامة والإسلام إذ هي ركن ركين له وقوة للمسلمين، ولكن إذا دار الأمر بين الحكم من جهة ولو كان حكم الإمام وبين وحدة المسلمين وقوتهم وبقاء الإسلام من جهة أخرى رجح الأهم على المهم السابق.
" فأمسكت يدي (2) حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما (3) أو هدما"خ62.
6- لا تتوقف الإمامة عن ممارسة دورها وتحمل أعبائها ولا توقف من قبل أحد على حين أن حكم الإمام قد يتوقف أو يوقف بمعارضة كما حصل للإمام الحسن عليه السلام، وقد يحال بين الإمام والوصول إلى الحكم كما هي حال أكثر أئمة أهل البيت عليهم السلام.
7- الإمامة مرتبة ومسؤولية يؤهل الإمام لها من قبل الله عز وجل فلا يقال إن الإمام يطلبها ويسعى لها على حين أن الحكم لا يطلب لذاته ولا ينافس عليه لرغبة شخصية.
وقد ركز الإمام عليه السلام على الإمامة وأهميتها وخصوصيتها ودورها وآفاقها في كثير من أقواله ومنها:
1- قوله "أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا، كَذِباً وَبَغْياً عَلَيْنَا، أَنْ رَفَعَنَا اللهُ وَوَضَعَهُمْ، وَأَعْطَانَا وَحَرَمَهُمْ، وَأَدْخَلَنَا وَأَخْرَجَهُمْ.
بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى، وَبِنَا يُسْتَجْلَى الْعَمَى. إِنَّ الأئِمَّةَ مِنْ قُرَيش غُرِسُوا فِي هذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِم، لاَ تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ مِنْ غَيْرِهمْ"..
فلا رسوخ في العلم ـ وهو مناط التميز ـ إلا للأئمة، ومنزلتهم هي من الله لا من الناس، ودورهم لا يعوّض، وهم صفوة العرب وقريش وهاشم ولا ولاية إلا لهم.
2- وقوله "نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت من غير أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً...فيهم كرائم الإيمان وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا".
فهم أصل الإسلام، وأوشج الناس بعراه، وألصقهم بأعماقه وأغواره، وهم أبواب الدين لا يؤتى إلا من خلالهم، وهم القادة والرادة، وأغلى المؤمنين وأغنى عطية الرحمن للعالمين.
3- وقوله مصوراً حال من لا يأتم بإمام ولا يتبعه ولا يسلك معه إلى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله "وهو في مهلة من الله يهوي مع الغافلين ويغدو مع المذنبين بلا سبيل قاصد ولا إمام قائد"
4- وقوله متعجباً من اتباع الناس السبل بعيداً عن الصراط المستقيم ومنهج الأئمة القويم: "وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَأ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اختِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بَعَمَلِ وَصِيٍّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بَغَيْب، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْب، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، الْمَعْرُوفُ فِيهمْ مَا عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي
الْمُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي المُبْهماتِ عَلَى آرَائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِىء مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيَما يَرَى بَعُرىً ثِقَات، وأَسْبَاب مُحْكَمَات".
5- وقوله ملخصاً قضية الناس مع الإمام والإمامة إيجاباً وسلباً: "نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة".
موقف الحاكم من الحكم:
من أسوأ مني به الناس على مر التاريخ حكام ساقتهم إلى حكم الناس شهوة عارمة متسلطة تطيح بكل القيم إن اعترضت طريقها وتقضي على كل من يقف في وجهها ولو بحق وترفع الحكم والإمرة إلى مستوى الغاية التي لا غاية فوقها اللهم إلا هوى النفس وتأليه النفس ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)) الفرقان43 ومن ها هنا رأينا فراعنة يقول قائلهم ((مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) القصص38، ((وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى)) طه64، ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)) الزخرف51.
وفي مقابل أولئك جميعاً وقف علي عليه السلام من الحكم – وهو أحق الناس به بعد رسول الله ص كما يعتقد على الأقل مستظهراً بالنصوص القرآنية والنبوية ومواقف الرسول المتكررة – موقف من ليس في نفسه ذرة من التعلق به أو التطلع إليه.
وها هو ذا يصور إقبال الناس عليه بعد طول إعراض "فما راعني إلا والناس إليّ كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وُطِئَ الحسنان وشُقَّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم".
ويصور مشهد البيعة له بالخلافة واحتشاد الناس لها وفرحهم بها: "وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم عليّ تداكّ الإبل والهيم على حياضها، يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب"خ220.
ويؤكد علي عليه السلام أن الخلافة ليست مطمعاً ولا هدفاً له، وأن الناس اضطروه إلى قبولها: "والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها"خ196
ولقد حاول عليعليه السلام بكل ما يستطيع أن يتنصل من قبول الحكم إذ عرض عليه ودعي إليه وألح عليه الناس في قبوله وتحمل أعبائه وكان يستشرف ببصيرته مدى ما آلت إليه الأوضاع من سوء وما انحرفت إليه النفوس من أغراض واضطراب الساحة بعد أن أقصي عن تسلم زمامها والإمساك بقيادها ردحاً من الزمن، وها هو ذا يقول: "دَعُوني وَالْـتَمِسُوا غَيْرِي; فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ; لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْـمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ.
وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ; وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!".
ولكن هذا الموقف من الحكم إنما يعني عدم التعلق القلبي به والبراءة من شهوة السلطة وعدم التلوث بحب الهيمنة والسيطرة.
لكن لا يعني بحال أن علياًعليه السلام لم يكن معتقداً بحقه في الخلافة "لقد علمتم أني أحق بها من غيري"خ73.
ولا يعني أنه كان شاكّاً في جدارته لها: "وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْر".
ولا يعني أيضاً أنه كان متردداً في قدرته على الحكم أحسن ما يكون الحكم بكتاب الله وسنة رسوله وقد تحقق ذلك منه بعد أن ألجئ إلى القبول بالخلافة: "فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا الحكم به فاتبعته، وما استسنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقتديته"خ196.
نعم لقد رفض علي طلب الحكم من خلال صراع طاحن ضرره أكثر من نفعه وخطره أعظم من ثمراته: "وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى".
ورفضه حين حاق الخطر بالدين ووقف لينصر الإسلام ويذود عن ذماره ووحدة أبنائه: "فَوَ اللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي، وَلاَ يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الاْمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ص عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ!
فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الاِسْلاَمِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد ص فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الاْسْلاَمَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَلاَئِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الاَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ".
لقد كان همه عليه السلام أيضاً أن تسلم أمور المسلمين وألا ينزل بهم الجور وأن ينالوا نصيبهم من العدالة ولو على حسابه: "والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وبهرجة"خ73.
أهداف الحكم في الإسلام:
إذا لم يكن الحكم هدفاً بذاته في الإسلام فماذا يكون؟
إنه وسيلة إلى أهداف أسمى وأعظم يسعى لتحقيقها الحاكم وينعم بذلك الشعب، ولا معنى لقبوله عند علي عليه السلام إلا عملاً وإخلاصاً لتلك الأهداف ويمكن إجمالها فيما يلي:
1- الدفاع عن القيم: ويتجلى ذلك في:
أ- إقامة الحق والباطل:
"قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة له، قال عليه السلام: والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً"خ33.
وحين يستتر الحق وتختلط الأمور ويمّوه الباطل حقيقته فما دور علي عليه السلام: "فلأنقبنّ الباطل حتى يخرج الحق من جنبه".
‌ب- بسط العدل والإنصاف:
"أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لألقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَ لأَلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز".
وفي الحديث عن كظة الظالم أي تخمته، وسغب المظلوم أي جوعه، تركيز على العدالة الاقتصادية وهي من أعظم أبعاد العدالة شأواً وأخطرها شأناً.
ولكن علياًعليه السلام يؤكد سعيه إلى إنصاف المظلوم على الإطلاق وإكراه الظالم على أداء ما عليه من الحق:
"وأيم الله لأنصفنّ المظلوم ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق ولو كارهاً"خ136.
2- صون الدين وإصلاح البلاد:
"اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكنْ لنبرز المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك"خ131.
3- الحفاظ على وحدة الأمة وإطفاء نار الفتنة:
وعلي عليه السلام الذي صان وحدة الأمة وافتداها بالتخلي عن المنافسة على الحكم على الرغم من أحقيته فيه وجدارته له وقدرته عليه هو الذي عَلَّم الناس فقه التعامل مع الفتن وبادر إلى تحمل مسؤولياته على هذا الصعيد.
"مالي وقريش والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين"خ33.
ومن ذا يجرؤ أن يقول ما قاله علي عليه السلام ويفعل ما فعله.
"أيها الناس، فإني فقأت عين الفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها واشتد كَلَبُها"خ93.
4- تربية الأمة:
ومن آفاق هذه التربية أن يربّى الناس على الإعانة على الحق ورد الجور.
"رحم الله امرأ رأى حقاً فأعان عليه، أو رأى جوراً فردّه، وكان عوناً بالحق على صاحبه"خ197.
وعلى أن يعينوا الحاكم الصالح على أنفسهم:
"أيها الناس أعينوني على أنفسكم"خ136.
ويحذر علي عليه السلام الناس من الاستسلام للظلم والظالمين ليخرجهم من قابلية الانظلام ويولد فيهم المناعة ويحرض خميرة الثورة:
"وَكَانَتْ أَمُورُ اللهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ، وَعَنْكُمْ تَصْدُرُ، وَإِلَيْكُمْ تَرْجِعُ، فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ، وَأَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللهِ فِي أَيْدِيهمْ، يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ في الشَّهَوَاتِ".
5- دستور العلاقة بين الحاكم والمحكوم والتأسيس للحقوق المتبادلة بينهما:
اتسمت العلاقة بين الحاكم والمحكوم على مرّ التاريخ بعدم التكافؤ عموماً وطغيان الطرف الأول وتجاهله بحقوق الطرف الثاني وممارسة ألوان من التسلط والظلم.
وكثيراً ما تذرع الحاكم بحق القوة أو تجاوز ذلك إلى استمداد شرعية مكذوبة يسميها الحق الإلهي لإلغاء كل حقوق الطرف الآخر.
وكان أدب الحكام المنطوق أو المكتوب مِنْهم أو لَهمُ يروّج لهذه الأكذوبة.
ومن ها هنا كان من المنتظر من الإسلام وهو الدين الإلهي الأشمل والأكمل الذي توءم العقيدة بالسياسة ونظّر لحقوق الفرد والأمة أن يعيد التوازن إلى هذه المعادلة لأنه دين العدل بأوسع معانيه.
ولم يتح لهذا التوازن معبّر عنه أبلغ وأصدق وأعمق من علي عليه السلام ـ ربيب الرسول ص، والقرآن الكريم ـ يرسم دستور هذه العلاقة المتوازنة العادلة وليؤكد المنبع الإلهي لها ويفصل موادها وأبعادها في خطبة له يخطبها "بصفِّين" في وهج نار الحرب المستعرة يتألق فيها إيمان علي بالحق الواسع الذي تأخذ منه الرعية بنصيب يكافئ نصيب الراعي ويبين أهمية حفظ هذا التوازن في انتظام الأمور وتوطد الألفة وصلاح الزمان وبقاء الدولة.
وخطورة الإخلال بهذا التوازن وينتهي من ذلك إلى ضرورة التناصح والتعاون بين الحاكم والأمة على إقامة العدل لا يستثني في ذلك أصغر أفراد الرعية قدرة وأعظم الحكام جدارة....
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَ يَجْرِي لاِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لاِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ.
ثُمَّ جَعَلَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْض، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ يُسْتَوْجَبُ بعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْض.
وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ، عَلَى الْوَالِي، فَرِيضةً فَرَضَهَا اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ لِكُلّ عَلَى كُلّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاِلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ.
فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الاْعْدَاءِ.
وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الاْدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الاْحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الاْبْرَارُ، وَتَعِزُّ الاْشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ.
فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ ـ وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ ـ بِبَالِغ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى العِبَادِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ. وَلَيْسَ امْرُؤٌ ـ وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ ـ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ ـ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ ـ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ.
إن هذه النفحات العلوية لتسبق ما قاله (جان جاك روسو) حول العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم وتتفوق عليه إذ هي تؤسس بدلاً من الحق الإلهي الذي ادعاه الملوك لأنفسهم، للحق الإلهي في حقوق متبادلة متوازنة متكافئة بين الحاكم والشعب لا يقوم طرف منها إلا بالآخر ولا يستوجب إلا به، ويتكرر بعض من هذا التفصيل بأمثلة مختزلة في مقام آخر:
"أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ:
فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا.
وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالاْجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ".

6- بين النظرية والتطبيق (عليٌّ عليه السلام حاكماً):
كثيراً ما تسقط النظرية عند التطبيق وكثيراً ما يكون منظِّرٌ بارعٌ مطبقاً فاشلاً.
ولكن علياً عليه السلام نموذج إنساني أسمى للتناغم بل التطابق بين النظرية والتطبيق على الرغم من صعوبة الظروف التي حكم فيها بعد خمس وعشرين سنة من انصراف الناس إلى سواه ثم إقبالهم عليه مع اختلاف أمره وأمرهم
"وليس أمري وأمركم واحداً إني أريدكم لله وتريدونني لأنفسكم"خ136.
وآية ذلك ما يصوره بقوله:
فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وفسق آخرون كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول)) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) القصص83،" بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"خ3.
ويبتلى علي عليه السلام فوق ذلك كله بتخاذل وتفرق وعصيان كثير من أصحابه مما يجعله يتوقع النتائج المرة لذلك:
"وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم"خ25.
ولكن علياًعليه السلام لم يحد عن دربه ولم يتخلّ عن منهجه ولم يُخِلّ لحظة بتقديم النموذج الأمثل للصادق بالمعنى الأشمل أي من يطابق اعتقاده الواقع ويصدق قوله اعتقاده ويصدق فعله قوله ليكون إمام الصادقين الذين أمر الله بأن يكون المؤمنون معهم في كل زمان ومكان ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين)) التوبة119، إنه حقاً الإمام الذي يجدر الائتمام به.
"ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدى به ويستضيء بنور علمه ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش"خ45.
لقد كان يعيش على مستوى أفقر أفراد رعيته ويرتقي في المعنويات إلى قمة سامقة لا يبلغها أحد، يرسم لهم بقلمه الصادق صورته النموذجية:
"وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم سيماهم سيما الصديقين وكلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل ومنار النهار متمسكون بحبل القرآن يحيون سنن الله وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل"خ234.
ويذكرهم بما أشاعه فيهم من العدل وما قدم لهم من الأسوة الحسنة
أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الاْكْبَرِ! وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الاْصْغَرَ! وَرَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الاْيمَانِ، وَوَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي، وَفَرَشْتُكُمُ المَعْرُوفَ مِنْ قَوْلي وَفِعْلي، وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الاْخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي؟
ويؤكد علي عليه السلام دوره في تحرير الناس من الظلم وإخراجهم من الذل
"ولقد أحسنت جواركم وأحطت بجهدي من ورائكم وأعتقتكم من ربق الذل وفلق الضيم"خ158.
ويحض من حوله على النهل من ينبوعه وأن يبادروه بالسؤال:
"فاسألوني قبل أن تفقدوني ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور وحوازب الخطوب لأطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤولين"خ57.
ويحثهم على الاستماع إليه بقلوبهم والاستنارة ببصيرته الثاقبة:
"فاستمعوا من ربّانيكم وأحضروه قلوبكم واستيقظوا إن هتف بكم، وليصدق رائد أهله وليحضر ذهنه فلقد فلق لكم الأمر فلْق الخرزة وقرفّه قرف الصمغة"خ108.
ويرسخ هذا المعنى بتأكيد الأسوة والقدرة على الإشعاع والتأثير الأنقى فيمن يأخذون عنه ومنه:
"أيها الناس استصبحوا من شعلة واعظ متعظ وامتاحوا من صفو عين روقت من الكدر"خ104.
ويصل بقضية التطابق بين التنظير والتجسيد إلى مداها:
"أيها الناس إني والله ما أحتّكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها"خ174.

7- تأصيل العلاقة بين الإدارة والشعب بمختلف شرائحه:
تبقى معضلة الإدارة وحاجز الفساد والروتين الذي يعطل صلة الشعب بها وصلتها بالشعب قائمة على ساقيها حتى في ظلال أفضل الحكام.
ولقد قدم لنا علي عليه السلام نموذجاً للجانب الإيجابي القائم على حرص الحاكم على تأصيل العلاقة بين إدارته عمالاً وقادة جند وجباة من جهة والشعب بمختلف شرائحه، ويمثل عهده إلى مالك الأشتر واليه على مصر دستوراً رفيعاً لهذا التأصيل ليس له مثيل، وهو يتناول الأبعاد الخلقية والتنظيمية والتنفيذية مما يقتضي دراسات واسعة وسيكتفي منه في هذا البحث بفقرات ذات دلالة لضيق المجال:
"وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ".
"فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي الاْمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ!"
"أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ"
وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ....وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلاْعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاْمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ.
"شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلاْشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الاْثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الاْثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ".
"وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ الاُْمَّةِ، وَاجْتَمَعتْ بِهَا الاُْلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ"
"ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ، وَفِي اللهِ لِكُلّ سَعَةٌ"
"ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً"
"ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الاْرْزَاق، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَو ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ".
"وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لأنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ".
"ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا... وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وَرُودِهَا عَلَيْكَ.. وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْم عَمَلَهُ"
"وَأَمَّا بَعْدَ هذا، فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاْمُورِ"
"ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَاف [فِي مُعَامَلَة، ]فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الاْحْوَالِ"
"وَإِيَّاكَ وَالاْعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاْطْرَاءِ"
"وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ".
ويؤكد المعاني والإشارات السالفة في قوله لمحمد بن أبي بكر:
"فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك، آس بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم"ك27.
ولقثم بن العباس وهو واليه على مكة:
"ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول ورودها لم تحمد فيما بعد على قضائها"
وللأسود بن قطنة صاحب جند حلوان:
"أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل".

8- دعائم العلاقة بين الحكومة والشعب:
لا بد لتجذير الثقة وتوطيد الصلة وإحكام اللحمة بين الحاكم والشعب من دعائم، وقد راح علي عليه السلام يرسخها في الاتجاهين.
فمن جهة راح يراقب عماله مراقبة دقيقة ويتابع تفاصيل علاقتهم بالناس من خلال عيون له أمناء يأتونه بكل ما تورطوا به ليحاسبهم من ثمّ حساباً لا هوادة فيه.
فمن كتاب له إلى بعض عماله:
"أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك"ك40.
ومن كتاب له إلى الأشعث بن قيس عامل أذربيجان:
"وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك ليس لك أن تفتات في رعية ولا تخاطر إلا بوثيقة وفي يديك مال من مال الله عز وجل وأنت من خُزّانه حتى تسلمه إليّ ولعلي ألا أكون شرّ ولاتك لك والسلام"ك5.
ومن كتاب له إلى بعض عماله:
"فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة وعاجلت الوثبة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزلّ المِعزى الكسيرة... فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرنّ إلى الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار، والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة"ك41.

ومن جهة أخرى راح يحض الرعية على القيام بدورها في النقد والمناصحة وقول الحق والبعد عن المصانعة والإطراء.
"وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ولست ـ بحمد الله ـ كذلك، ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل"خ207.
"فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب فو الله إني لأولى الناس بالناس".
مميزات رؤية الإمام علي عليه السلام ونموذجه التطبيقي:
1. رعاية الإمامة للعلاقة المتوازنة بين الحكم والشعب تنظيراً وتطبيقاً وهو ما اتضح من خلال النقاط السابقة، فالإمامة كما أرادها الله تعالى حافظة للإسلام حاضنة لقيمة منافحة عن حريمه وهي عامل وحدة لا فرقة بين المسلمين وإذا كان الحكم قد أقصي عنها إلا إلماماً فإنها بقيت تتابع دورها في تنقيح المفاهيم وتدعيم القيم وهو ما يتجلى في كلام الإمام علي عليه السلام وكلام سائر الأئمة عليه السلام على أن عليّاً من بينهم يختص بحيز أوسع من هذا الكلام ويختص بتجربة الحكم الوحيدة للأئمة مما قدّم للمسلمين والبشرية جمعاء حالة فريدة للاقتران بين النظري والتطبيقي بعد أعظم تجربة قدمها رسول الله ص نبي الأئمة وإمام الأنبياء.
2. تحقيق التناغم بين المنبع الإلهي للمنهج الأمثل على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمصب البشري لها بما يخدم الانسان ويرشّد مسيرته ويعده لتجاوز التجارب البشرية الفاشلة إلى دولة المثل العالمية التي يحمل رايتها آخر الأئمة عليهم السلام.
3. تأكيد الرفض المطلق للظلم بكل أشكاله وعلى كل صعيد وإبطال مقولات مثل: ومن لا يظلم الناس يظلم... والظلم من شيم النفوس، فإذا دار الأمر بين أن تكون ظالماً وأن تكون مظلوماً فعلي عليه السلام يقول لك:
"واقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين"خ151.
وإذا كان لا بد أن يكون أحد الطرفين الراعي أو الرعية ظالماً فعلي عليه السلام يخبرنا من خلال تجربته النادرة:
"ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها وأصبحت أخافُ ظلمَ رعيتي"خ96.
ولابد من تجنب الظلم في أوج الانتصار على العدو الظالم:
"اللهم إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي وسددنا للحق"خ170.
4. الحرص على كرامة أفراد الأمة جميعاً على اختلاف نحلهم وأديانهم:
فعلي عليه السلام يعلم الحاكم أن يفتح قلبه لسائر أفراد الأمة ويتحرق ألماً ويكاد يموت أسفاً لموقف ينال به أعداء الأمة من كرامة امرأة معاهدة:
"ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا أريق له دم، فلو أن مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان به عندي جديراً"خ27.

خاتمة:
وتبقى العدالة السياسية عند الإمام علي عليه السلام أفقاً ساطعاً تترسمه كل عدالة سياسية إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ضمن منظومة العدالة التي نظّر علي لها وجسدها قيمة إنسانية عليا تقبس من نور العدالة الإلهية المطلقة.
وتتألق العلاقة المتوازنة المتكافئة بين الحاكم والشعب في أفق تلك العدالة لتعلّم كل حاكم وكل شعب كيف ينبغي أن تكون هذه العلاقة تنظيراً وتجسيداً، ليس علي عليه السلام "ماضياً" أضاء الزمان والمكان والإنسانية والكون بنور من محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحسب "وأنا من رسول الله كالنور من النور وكالذراع من العضد"، ولكنه حاضر متألق ومستقبل مشرق وعلى المسلمين خصوصاً والبشرية عموماً أن تعاود اكتشافه وتوثق معرفتها به لأنها بحاجة إليه قولاً وفعلاً لتنفتح على أسمى آفاقها الإنسانية ولتصل إلى جنتها الأرضية ولتعرف محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من خلال باب مدينة علمه، وتنفتح من ثم على الله سبحانه ذي الجلال والجمال.
 

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة