كربلاء في مسيرة القسام الجهادية

مقالات

2021/07/19

title
 كربلاء في مسيرة القسام الجهادية

بسم الله الرحمن الرحيم.
لسنا بحاجة إلى التماس الحجج والبراهين على أن كربلاء لم تكن في تاريخ الإِسلام فصلاً من فصول النزاع بين الحكم والمعارضة فحسب: بحيث يؤثر بعضٌ إغلاق ملفه تحت شعارات (عفا الله عمّا مضى) و (ذلك شأن غبنا عنه ولم نشهده)، ويلتمس بعض الأدلة لضرورة العودة إلى فتحه ودراسة مجرياته.
فقد أثبتت كربلاء من خلال قيادة الإمام الحسين ودور السيدة زينب عليهما السلام بمنطلقاتها النظرية وقيمها الخلقية وأبعادها العملية أنها مدرسة الثورة في الإسلام وبالإسلام، وأن على كل مسلم يدّعي فهم الإسلام وثوريته الأصيلة: التي تصون وجوده وتحفظه من التزييف والتحريف من الداخل ومن كيد الأعداء والمتربصين من الخارج؛ أن يتعلم فيها ومنها.
وليست هذه دعوى؛ فإن كلّ ما خطته هذه الأمة في تاريخها ولاسيما أيامنا هذه من انبثاق الثورة الإسلامية في إيران لتزلزل عرش الطاغوت الشاهنشاهي وتجدد نسغ الثورة في شجرة الإسلام، ومن تمريغ لأنف الاستكبار العالمي في بيروت، والانكفاء مخجل للمد الصهيوني إلى الشريط الحدودي، وصمود للمقاومة الإسلامية ودفق لعملياتها النوعية وانطلاق لانتفاضة الحجارة من مساجد فلسطين وغيرها وغيرها إنما هو حقائق نبتت من رحم كربلاء ورضعت من ثديها.
الموضوع:
ولو جئنا إلى مسيرة القسام شيخ الجهاد في فلسطين باعتبارها الثورة الأم -باعتراف المحللين والدارسين- في تاريخ ذلك الجهاد نستقرئ صلتها بما أسلفناه في مقدمة البحث من تتلمذ كل ثوري مسلم على المدرسة الكربلائية ونستشف مدى الاتصال بين أول حركة جهادية في فلسطين وجهادها الحالي من خلال هذا الطابع الكربلائي عدداً من السمات الكربلائية نختصرها على النحو التالي:
أ‌) في الشكل:
1- الهجرة: بعد أن قام الشيخ القسام في سورية بمبادرات ثورية للتبرع لصالح مجاهدي ليبيا المتصدين للغزو الإيطالي وبقيادة مجموعة متطوعة لمساندتهم منعتها السلطة العثمانية من السفر.
وبعد أن أدى قسطه الجهادي في مقارعة الفرنسيين الدخلاء مشاركاً في ثورة الشيخ صالح العلي إلى جوار رفيق الشيخ البيطار وبائعاً بيته لشراء بنادق للثوار وظافراً بوسام هو الحكم الغيابي بالإعدام من المستعمرين الفرنسيين.
ضاقت عليه الأرض بما وسعت فآثر الهجرة إلى موقع آخر للجهاد فيمم شطر فلسطين المبتلاة بالإنجليز والصهيونيين.
- ونلاحظ أن الهجرة أصيلة في المدرسة الكربلائية: فقد هاجر الحسين عليه السلام إلى المدينة المنورة بعد أن شارك إلى جوار أبيه الإمام علي عليه السلام وأخيه الإمام الحسن عليه السلام في جهادهما وذبهما عن الإسلام في العراق.
2- الإعداد: كان القسام منذ نزوله حيفا مع خلص أهله وصحبه يهيء الناس وينظمهم لرفض الإنجليز والصهانيين على حد سواء وحماية فلسطين من مخططاتهما.
ولن نفيض في تفصيل جوانب هذا الإعداد الشمولي بحيث صار هؤلاء مستعدين لمواكبة حركته حيث يكون أفقها وميدانها.
ولا ننسى أن الحسين عليه السلام لم يتح له أن يخرج معه من خرج من أهله وصحبه لو لم يكن قد أعدهم وزرع فيهم بذور الرفض والانتماء.
3- الخروج: ولم يستعجل القسام الفرصة- كما قال بعض المحللين بحق -وإنما خاف فوات الفرصة، ولم تكن المسألة مسألة عدد ولا مسألة حساب الربح والخسارة بالحساب المادي؛ وإنما كانت مسألة حساب القيم، فانطلق إلى غابة البلوط في يعبد من قضاء جنين على تخوم نابلس.
ولقد خرج أستاذه الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكة إلى ساحة كربلاء مع ثلة من أهله وصحبه ونسائه وأولاده.
4- الحصار: وأحاطت بالكوكبة المجاهدة قوة بريطانية ناهزت المائتين تدعمها الآليات وطائرة حربية لاكتشاف مواقع الثائرين وبدأت المناوشات.
وهكذا كان الحسين عليه السلام قد حوصر من قبل جيش ابن زياد بقيادة عمر بن سعد وهو جيش يفوق ثلته المجاهدة عدة وعتاداً بعشرات الأضعاف.
5- المساومة على الاستسلام: ولقد رفض القسام- الذي سبق له أن أعرض عن المساومة الفرنسية لإلغاء حكم الإعدام عنه -طلب الاستسلام الذي أغراه به البوليس العربي الذي أبرز في مقدمة الحملة البريطانية، وقال قولته الشهيرة: هذا جهاد نصر أو استشهاد، لن نستسلم، وقال لرفاقه من حوله: موتوا شهداء.
وكان الحسين عليه السلام قد ندب مراراً لأن ينزل على حكم يزيد ويتخلى عن ثورته ولكنه آثر الشهادة وقال كلمته المشهورة (هيهات منا الذلة).
6- الشهادة: وانهمر الرصاص على القسام ورفاقه فاستشهد خمسة وجرح خمسة ودامت المعركة ثلاث ساعات. وكانت المعركة بين الحسين عليه السلام وصحبه من جهة وجيش ابن زياد من جهة أخرى معركة قصيرة لم تدم أكثر من ساعات من يوم عاشوراء وانتهت باستشهاد الرجال والفتية وبعض الأطفال وبسبي النساء.
ب‌) في المحتوى:
1- على صعيد القول: رأينا أن الشعارات التي نادى بها القسام إنما تمتح من مدرسة الحسين عليه السلام وما مصطلحات الجهاد والاستشهاد ورفض الاستسلام إلَا معالم الدرس الذي تلقنه القسام من أستاذه الكبير.
ولنستمع إلى شطر من خطبة القسام يقول فيه:
هل أنتم مؤمنون؟ لا أعتقد؛ لأنه لو كنتم مؤمنين لكانت عندكم عزة المؤمن. أيها المؤمنون أين نجدتكم؟ أين إيمانكم؟ أين هي مروءتكم؟.
ألا نسمع فيه صدى أقوال الإمام الحسين عليه السلام؟ هيهات منا الذلة -لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد.
2- على صعيد الفعل:
أ‌- القيادة الدينية: قامت ثورة الشيخ القسام على محور قيادته الدينية العلمية المتميزة فهو طالب الأزهر وتلميذ الشيخ محمد عبده المباشر ومتشرب الروح الثورية من السيد جمال الدين، وكان من الأساتذة المتفقهين الذين رشفوا الإسلام عقيدة وخلقاً وسلوكاً ليبثوه فيمن حولهم ولنستمع إلى ما قيل فيه:
(نقل إلينا رفاقه عن التفاف الناس من حوله في المسجد والبيت والشارع، أخبرونا عن علمه الفقهي الواسع فالقسام العالم الأزهري والتلميذ البار للشيخ محمد عبده كان محيطاً بفقه المذاهب الإسلامي كلها فما إن يطرح عليه أحدهم سؤالاً دينياً حتى يفتي له بمذاهب السنة الأربعة، فالمستمعون إليه جلهم إن لم نقل جميعهم من المسلمين السنة فالمذهب السني هو مذهب الأكثرية في فلسطين. وقد كان القسام وحده من المجتمعين حوله العالم الشيعي المذهب) وناهيك بالحسين عليه السلام إماماً وقائداً ومحوراً لثورته الإسلامية.
ب‌- البعد الخلقي: لم يغب عن الشيخ القسام أهمية التفريق بين البريطانيين والصهاينة من جهة وهما ملة واحدة والعرب المغلوبين على أمرهم من جهة أخرى ولئن كان هؤلاء قد سقطوا في حبائل أولئك فإنه كان حريصاً على استنقاذهم ضنيناً بهم؛ فلم يسمح لرجاله بإطلاق الرصاص عليهم.
وكان الإمام الحسين عليه السلام إلى آخر لحظة جاهداً في إنقاذ قاتليه، وشدهم إلى طريق الهداية؛ وقد نجح في تحويل زهير بن القين من كاره له لا يطيق رؤيته إلى مجاهد مخلص بين يديه والحر بن زيد الرياحي من قائد يضيِّق عليه إلى منافح عنه مستشهد بين صفوفه وما كان ذلك إلا بأخلاقيته الرفيعة التي ينطبق عليها قوله تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت 34)، فقد قابل الأول ألطف مقابلة وسقى الثاني وجيشه وقد قدموا إليه أعداء ألداء.
ت‌- الطابع الفدائي الاستشهادي: حين أدرك الشيخ القسام أنه لم يعد بإمكانه في ظروف تضييق الحصار عليه من السلطة الإنجليزية الغاشمة أن يتابع وصحبه عملياتهم (كالعملية ضد مستعمرة نحلال ذات الشأن عند قادة الصهيونية) وشعر بأن الإنجليز قد يقضون عليه ويئدون الثورة قبل ولادتها بادر إلى الخروج واختار الفداء والاستشهاد.
وهو في هذا إنما كان يحذو حذو الإمام الحسين عليه السلام الذي ضُيق عليه في المدينة فخرج إلى مكة حيث حاول عملاء يزيد قتله فيها فانطلق إلى كربلاء ليختار الفداء والاستشهاد.
ث‌- التدقيق في انتقاء الأنصار: وهو من الأهمية بمكان لأن الثورة بمعاييرها الإسلامية فعل لا يقوم به إلا المنتقون الأخيار الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان ويكفينا شاهداً لهذا العنصر في حركة القسام الجهادية ما أدلى به أحد ثلته المجاهدة نمر السعدي بعد أسره لمراسل صحيفة عربية:(وكنا لا نقبل إلا من كان مؤمناً مستعداً أن يموت في سبيل بلاده) وكان على المنضم إلى جماعة القسام نظراً لشح مواردها المالية أن يشتري سلاحه بنفسه وفي هذا ما فيه من امتحان مدى تصميمه على الجهاد.
وحتى المؤازرون المتبرعون كانوا يخضعون لشروط دقيقة فلابد من الوثوق بهم ثقة شديدة لتقبل تبرعاتهم.
وفي مسيرة الإمام الحسين عليه السلام كان درس انتقاء الأنصار وغربلتهم في كل مرحلة من مراحل الطريق معلَماً بارزاً من المعالم؛ فكثيراً ما قال لصحبه:(إن القوم لا يطلبون غيري وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً). ولكن صحبه المصطفين كانوا يرددون دائماً بعبارات شتى إصرارهم على متابعة الجهاد من موقع الاختيار والإرادة والتصميم مصداقاً للآية الكريمة:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف 108).
ج‌- الانفتاح الإسلامي: عرضنا فيما سبق أن الشيخ القسام وهو ابن جبلة الشيعي المذهب كما قيل كان ينطلق من منطلق الإسلام فقد فقه المذاهب الأربعة وأفتى بها وعاش مع الناس مدافعاً عن شرف المسلمين وكرامتهم، وقيل أنه كان على صلة بالمطران حجار الذي شارك في التبرع للثورة.
ألم يكن الإمام الحسين عليه السلام قد أعلن الأهداف الإسلامية لثورته (إني لم أخرج أشيراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى الله عليه وأله وسلم أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر). وقد كانت ثورته صوناً للإسلام والمسلمين جميعاً، بل أنه انتدب في كل مسلم غيرته على الإسلام ودعاه إلى مشاركته الثورة كما في دعوته عبد الله بن عمر إلى الخروج معه. واستطاعت ثورته أن تجتذب إليها أحد النصارى فإذا به يندفع إلى الجهاد والاستشهاد.
ت‌) في النتائج:
من النتائج البعيدة لثورة القسام ما يلي:
1- أنه عرف بعد موته أكثر مما عرف في حياته بل إن بعضهم سمع باسمه أول مرة عند استشهاده
2- صار رمزاً للرفض والثورة والاستشهاد.
3- لم يتغير شيء في واقع الاستعمار المسيطر آنذاك، ولكن النفوس شحنت على أثر ثورته واستشهاده بأعلى درجة من عدم القابلية للاستعمار والفاعلية في مواجهته.
4- بنى مجموعةً كبيرة القساميين صاروا وقود كل ثورة من بعده، وامتازوا بترفعهم عن المكاسب والمناصب والعناوين وذوبانهم في حركة الجهاد المتفجرة المستمرة.
وأما النتائج القريبة فتشتمل على ما يلي:
1- كانت جنازته عرس رفض فقد أقيمت على الرغم من تهديدات الإنجليز المسبقة وسارت في شوارع حيفا ثم حملت مسافة خمسة كيلو مترات إلى قرية الشيخ الشهيد، وقد أمطر المشيّعون مراكز البوليس الإنجليزي بالحجارة واضطروا إلى الاختباء والانكفاء على وجوههم ولم يجرؤوا على مواجهة الغضب الشعبي العارم.
2- تم اغتيال الجاسوسين اللذين وشيا بمكان الشيخ القسام وصحبه وحركاتهم وهما أحمد نايف وحكيم بسطه في رابعة النهار.
3- اعتراف الأسرى الأبطال من صحبه في المحكمة بكل شيء ورفضوا التماس أي عفو، واضطرت السلطة المستعمرة إلى إصدار أحكام مخففة في حقهم محاولة منهم لامتصاص النقمة الشعبية.
4- أعلن فرحان السعدي ثورته في بيسان وهو في الثمانين ونجم عنها قتل البريطاني (اندروز) أعدى أعداء الفلسطينيين وبائع أراضيهم إلى الصهيونيين وانتهت إلى إعدام ذلك الشيخ الجليل.
ولم تكن كربلاء في نتائجها إلا المدد الثوري لكل رفض وتمرد على الظلم والانحراف وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة.
وأما قادة جيش يزيد فقتلوا الواحد تلو الآخر بعد وقت يسير على يد المختار الثقفي بمثل ما نكلوا بالحسين وأهله وصحبه.
وقامت ثورات التوابين ثم السادة العلويين، وسرى مصل الثورة في شرايين الجسد الإسلامي فأفرز ولا يزال يفرز كل وقائع الفخر والصمود في تاريخ الأمة.
وهكذا يتبين من خلال ما أوجزناه أن السمات الكربلائية لمسيرة القسام الجهادية نور أوضح من أن يخفى بل هو يضيء الدرب للسالكين.
ولعل خير ما يشهد لما عرضناه ما قاله السيد إبراهيم الشنطي صاحب جريدة الدفاع آنذاك معلقاً على ثورة القسام واستشهاده (في يعبد لنا ثأر، لنا حسين، لنا كربلاء).
وما تدفقت به شاعرية حسان فلسطين اليعقوبي:
                                              لك في الحسين ومن إليه أسوة                     فيما جناه عليك ذاك الجــــــاني.
                                              إن كان أول من أصابوا مقتلاً                     منه الحسين، فأنت عندي الثاني.
خاتمة:
وسيبقى خط الجهاد والاستشهاد الحسيني الكربلائي السد المنيع الذي ستتحطم عليه هجمة الغرب المادي الحاقد: المستأصل للمسلمين في أوروبا، والمتآمر عليهم في سائر أمصارهم والداعم للصهيونية المجرمة الغاصبة لفلسطين الحبيبة والمشردة لأهلها في آفاق الأرض.
وستنتصر الأمة على أعدائها انتصارها الكبير حين تتحرك في مسيرة جهادية واحدة وتشرق فيها السمات الكربلائية. ولعل ذلك بعض ما كان يشير إليه جد الحسين حبيب الله وسيد رسله صلوات الله عليه وأله في قوله:(حسين مني وأنا من حسين).

 

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة