البصيرة في النموذج الحسيني الكربلائي

مقالات

2020/07/13

title
                                     البصيرة في النموذج الحسيني الكربلائي

مقدمة:
لم تكن كربلاء الحسين (ع) بما هي ثورة إلا نموذجاً أمثل وأكمل وأفضل للثورة في الإسلام وبالإسلام وللإسلام، بل للمسلمين جميعاً لا لفئة ولا لطائفة ولا لفريق، ولا لمصلحة عائلة أوعشيرة أو قبيلة.
وهذا ما يوضحه غاية الوضوح بيانها الأول بلسان قائدها وإمامها الحسين ع: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي، خرجت آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ علي أصبر)   ((خطب الحسين على طريق الشهادة))

وإذا كانت هذه الثورة المثالية إسلامية بامتياز فهي للإنسان والإنسانية جمعاء، لأن الإسلام لم يكن ولا يكون ولن يكون إلا للإنسان، فالدين وإن كان إلهي المنبع فإنه إنساني المصب، وهذه الثورة ثورة إنسانية بامتياز.
ومن ههنا اغتنت هذه الثورة وأغنت بخصائص مونقة، وقدمت دروس الإسلام المحمدي الخالص مكتوبة بالدم الطهر للإمام الحسين (ع) وخلاصة أهل بيته وخُلّص أصحابه، ولا زالت دروسها على مدى خمسة عشر قرنا ولاتزال ما بقي الدهر مدرسة للإسلام والإنسانية على المسلمين الواقعيين والثوريين الحقيقيين أن يستلهموا دروسها، ومنها دروس (البصيرة).
ولنصغ بادئ ذي بدء إلى صيحة خصم للحسين ع انقلب عليه بعد إذ كان ممن ناصره وبايعه وسقط في أول امتحان للثوريين الحقيقيين، إنه عمرو بن الحجاج، وهو إذ جاء ينقضّ- مع جند والي يزيد على الكوفة عبيد الله بن زياد - على الثلّة الطيبة من أهل بيت الحسين ع وأصحابه، وإذ يرى فزع مقاتليه من بأس جند الحسين ع في القتال يصيح بجنوده: ويلكم، أتدرون من تقاتلون؟ إنكم تقاتلون فرسان المصر وأصحاب البصائر وقوماً مستميتين.
لقد كان له من البصيرة فحسب أن يعترف بأن هؤلاء الأبطال هم من أصحاب البصائر، ولم يكن له من البصيرة ما يحجزه عن الانقلاب عن الحسين ع، وقتال أصحاب البصائر هؤلاء، وبعد، ما حكاية البصيرة في النموذج الحسيني الكربلائي؟

أولاً: البصيرة في اللغة والاصطلاح
يأتي الفعل أبصر بمعنى الرؤية ومصدره البصر ويجمع على أبصار ويكون بأداة عند الإنسان وجارحة تسمى الباصرة، وقد تقع على المحسوسات ويُستعمل الفعل أبصر وبَصُربه للقوة المدركة لما وراء المحسوسات ومصدره البصيرة وجمعها بصائر
(قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف :٨٠١)
(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الأنعام: ٤٠١)
وأما قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14-15)
فقد أضيفت فيها تاء المبالغة إلى بصير كما أضيفت إلى راوٍ فقيل رواية وكما أضيفت إلى علام فقيل علامة.
ومن أدب اللغة العربية الجميل - وكلها أدب وجمال _ أنها تطلق على الكفيف لقب البصير تنويهاً بأن الله عوّضه عن حرمانه من البصر بالمزيد من البصيرة، كما تقول للدّيغ السليم تفاؤلاً له بالسلامة وعلى الصحراء التي يضلّ فيها الإنسان ويضيع المفازة تفاؤلاً لمن يقطعها أن ينجو ويفوز.
ولا أنسى بهذا الصدد لطيفة تعلّمتُها من الأدب الجمّ لوالدي (رحمه الله) ونقلها إ لي أحد حفاظ القرآن عندنا وكان قد حرم نعمة البصر من صغره قال: إن والدي أراد أن يسأله عن تاريخ تلك الحادثة فكان أن قال له - ونعم ما قال-: يا أبا حكمت، متى انتقل النور من عينيك إلى قلبك؟
ويظهر مما سبق أن البصر قد يكون بصر الحس وقد يكون بصر القلب، ولا شك في أن فقدان الثاني هو الخطر على إنسانية الإنسان؛ ولذا ندد القرآن بمن عمى قلبه ودافع عمن كُفّ بصره،فقال:
(... فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46)
(وَمَنْ كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (الإسراء:72)
وقال رسول الله (ص):( ليس الأعمى من يعمى بصره إنما الأعمى من تعمى بصيرته) (المتقي الهندي، كنز العمال، ص1220)
وقال علي(ع):(فقد البصر أهون من فقد البصيرة) (الآمدي، غرر الحكم 3061)
وفي الآية القرآنية (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف:٨٠١
تنويه وتحفيز إلى اتخاذ السبيل التي ندب الله إليها ودل بكتبه ورسله عليها، ولا سيما على صعيد الدعوة إلى الله تعالى، وهي سبيل تقوم على تثبيت وتحقق ومعرفة وبرهان يتلاقى عليها العقل والشرع ويقتدى فيها بالرسول الأكرم (ص) صاحب البصيرة الأرقى والأنقى والأتقى.
وأما سمع الله وبصره- وهوا لسميع البصير- فليس بآلة ولا أداة ولا جارحة، وإنما هما علمه، وكما قال علي(ع):(بصير لايوصف بالحاسة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة) (نهج البلاغة: ج1).

ثانياً: رؤى حول البصيرة
أ- حقيقة البصيرة:
هي كما يُستفاد من القرآن والسيرة والعقل:
1- رؤية ما وراء الظواهر من الحقائق، وهو ما يدعى في لغة القرآن الغيب.
2- توقّع مجريات الحوادث ونتائجها بناء على التبصّر بمقدماتها.
3- تشخيص العدو الحقيقي من الصديق الحقيقي، وعدم الاغترار بالظاهر الخادع.
4- التعويل في كل حركة على معرفة ، يتناغم فيها البرهاني مع القرآني، والنظري مع البدهي، ويُركن فيها إلى اليقين لا الظنّ والواقع لا الأمانيّ.

ب- أبعاد البصيرة:
ويبدو مما سبق أن للبصيرة أبعاداً في حياة أصحاب البصائر وفي بناء شخصياتهم.
1- البعد المعرفي: وهو الأساس في كل أبعادها.
2- البعد الوجداني: وهو المنطلق لكل الميول الإنسانية.
3- البعد السلوكي: وهو الترجمة العملية المطلوبة والدليل على امتلاك البصيرة وتأصلها معرفياً وتألقها وجدانياً.

ج- عوامل البصيرة:
مما يفتق البصيرة في شخصية الإنسان ويعمّق دورها عوامل عديدة منها على سبيل التعداد:
1- الإيمان
2- الإسلام
3- العبادة
4- التقوى
5- الإخلاص
6- الولاية

د- آثار البصيرة في شخصية الإنسان ومواقفه:

ومن تلك الآثار:
1 الوعي بالواقع
2 اتخاذ الموقف الملائم من رفض ضمني إلى رفض علني إلى مقاومة.
3 القيام بالتكليف الشرعي مهما كانت الأمور شاقة ،وفي كل الأزمنة ولاسيما زمان الفتنة.
4 الصبر والاستقامة والتضحية حتى الشهادة.

ع- أدوار البصيرة في المجتمع:
ومن أبرز تلك الأدوار:
1 تقديم النموذج الأمثل.
2 تحريك المجتمع نحو الأفضل.
3 النصر بالمعنى الواقعي الأكمل، وهو ما يدعى في لغة القرآن الفتح.

و- أبعاد البصيرة في التاريخ:
ومن أهم تلك التجليات:
1 تطوير الأحداث إيجابياً لمصلحة الحق ولو بعد حين.
2 تقديم بصمات ملهمة للأحرار والثورة وعشاق القيم.
3 التمهيد للغلبة النهائية للحق على الباطل.

ز- عطاءات البصيرة على مستوى الحضارة الإنسانية:
ومن تلك العطاءات:
1 التوفيق بين فطرة الإنسان وحضارته.
2 الربط بين الثقافة ببعدها المعنوي والحضارة ببعدها المادي.
3 صبغ الحضارة الإنسانية بالصبغة الإلهية.

ثالثاً- تجليات البصيرة في خط النبوة والإمامة
أ- البصيرة النبوية:
بينما كان المسلمون يتعاونون على حفر الخندق حول المدينة المنورة دفاعاً عنها في مواجهة
الأحزاب من المشركين واليهود؛ ضرب الرسول قبل الجميع بمعوله صخرة فانطلقت منها شرارة، فبيّن رسول الله (ص) أنها أضاءت له قصور فارس في العراق، وضرب بمعوله ثانية فانطلقت شرارة فأكّد أنها أضاءت له قصور الروم في الشام، ووعد المسلمين بالفتوح وهم في أشد حالات المشقة والحصار

ب- البصيرة العلوية:
وإذا كان علي(ع) هو القاتل (وإن معي لبصيرتي، ما لبّست على نفسي ولا لُبّس علي) (نهج البلاغة، ح104)
فإنه ليعد مواليه ومحبيه وهم في أشق الأحوال في غمرة انتقاض الناكثين والقاسطين والمارقين قائلاً:( لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على وليدها) (نهج الباغة، ح209)

رابعاً: النموذج الحسيني الكربلائي للبصيرة
أ- البصيرة الحسينية:
وحين كان الحسين ع في طريقة إلى كربلاء رافضاً للجاهلية الجهلاء أن تهيمن على مسيرة الشريعة الغراء السمحاء؛ كان يلعن وهو الموقن أنه ذاهب إلى الشهادة (من لحق بي فقد استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح) (الحسين على طريق الشهادة)
ب- البصيرة الزينبية:
حين كانت زينب ع في قصر يزيد وبين يديه رأس الحسين ع وهو ينكث ثناياه بعصاه متغنياً بشعر الجاهلية:
لعبت هاشم بالملك فلا. خبر جاء ولا وحي نزل
ثم ينشد متجبراً متشفياً:
ناح الغراب فقلت نح أو لا تنح. فلقد قضيت من النبي ديوني
إذا بها تجابهه ببصيرتها الشامخة المستشرفة للمستقبل قائلة له بشمم وإباء:
(فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد؟)

ج- البصيرة السجادية:
حين يعلو الإمام السجاد ع عليل كربلاء المنبر في دمشق ويلقي خطبته العصماء يسأله يزيد مقاطعاً سؤال الأرعن المتعجرف: أينا المنتصر؟ فينتظر هنيهة ريثما يعلو صوت الأذان
ثم يقول له ببصيرته الفذّة: هذا الذي ينادى به في الأذان جدي أم جدك؟!

خامساً: تطبيق معاصر
إن الحرب الدائرة في سورية في زماننا هذا قد صنفت العالم محورين:
أ- محور عدم البصيرة، ومن خصائصه أنه لا يميّز العدو من الصديق، بل قد يعتبر العدو صديقاً والصديق عدواً وإن سمى الجميع حلفاء، وفيه أمريكا ودول الغرب وتركيا وممالك الأعراب
ولاسما السعودية والإمارات والبحرين وقطعان الدواعش والنصرة والقاعدة ومعهم الكيان الصهيوني الغاصب.
ب- محور البصيرة وفيه إيران الإسلام المحمدي الخالص وعراق الحشد الشعبي ويمن الأبطال ولاسيما الحوثيين وسوريا قيادة وجيشاً وشعباً ولبنان حزب الله وفلسطين حركات المقاومة المخلصة الواعية، وتنضمّ إليهم الحليفة الكبرى روسيا، ومن مزاياه أن ليس فيه إلا الصديق، وإنها لكربلاء الصابرة وعاشوراء المنتصرة.
وكما صدق قول الإمام الخميني (قدس سره) ببصيرته الثاقبة:
أمريكا لا تستطيع أن ترتكب حماقة ضد إيران.
وكما طمأن السيد الخامنئي (حفظه الله) أمير المقاومة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) في عدوان ٦٠٠٢م أن حزب الله سيخرج منتصراً ويتحول قوة إقليمية كبرى،
وكما كان الوعد الصادق لسيد المجاهدين عن بصيرة واثقة بالنصر وأنّ إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت فستصدق بصيرة محور البصيرة وسيتحقق النصر الكبير لمحور البصيرة المحور كله محور المقاومة بفتح عظيم يغيّر صورة العالم إن شاء الله وسنهتف جميعاً معاً مستضيئين بالبصيرة القرآنية مرددين قوله تعالى :
(... وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم,47)، ومستلهمين النموذج الحسيني الكربلائي للبصيرة.
والحمد لله رب العالمين.


 

قرأت لك

كتاب: الوحي والنبوة المؤلف: مرتضى مطهري (مفكر إسلامي)

متابعة القراءة